بوب شاكوشيس يكشف وجه أميركا المعتم

أنطوان جوكي
نعرف الكاتب الأميركي بوب شاكوشيس من خلال روايتين: «في سعادة الجُزُر» (1985) و «السباحة في مياه البركان» (1993) التي حبكها بالدسائس والمغامرات العاطفية والتأملات الجيوسياسية، وتفحّص فيها ذلك الخليط من الإحسان الساذج والنزعة الافتراسية الذي أملى في العقود الأخيرة من القرن الماضي سلوك أميركا تجاه العالم وجنوبه تحديداً.
روايته الجديدة «المرأة التي فقدت روحها» (2013)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار Gallmeister الباريسية، وتطلّبت منه عشر سنوات من الجهد الجبّار لكتابة نصّها الطويل (800 صفحة)، تتقاسم مع الرواية السابقة موضوعها وكثافتها وخصوصاً ذلك الأسلوب الرائع وتلك الحبكة المتينة اللذين يميّزان عادةً الروايات الكبرى.
للوهلة الأولى نظنّ أن هذه الرواية، التي تقع أحداثها الغزيرة في بلدان عديدة (هايتي، كرواتيا، تركيا، البوسنة، أفغانستان، ألمانيا وطبعاً الولايات المتحدة) وتغطي زمنياً الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطلع الألفية الثالثة، تنتمي إلى روايات التجسّس. ولكن بسرعة يتبيّن لنا أن شاكوشيس يسعى، من خلال هذه الواجهة الخادعة، إلى التجسُّس على النفْس البشرية بالذات من أجل كشف محرّكات تلك البربرية الموجودة في كل واحد منا.
المرأة التي تفقد روحها في الرواية تحمل أسماءً كثيرة، منها جاكلين سكوت – أو جاكي – ورونيه غاردنر ودوتي شابرز ودوروتي كوفاتشيفيتش. في مطلع النص، نراها تعمل كمصوّرة لن تلبث أن تلقى مصرعها في هايتي. نحن في العام 1998، بعد أربع سنوات من العملية العسكرية الأميركية الواسعة التي استهدفت منفّذي الانقلاب على الرئيس المنتخَب جان برتران أريستيد. وهو ما يفسّر وجود الجيش الأميركي في الجزيرة إلى جانب عملاء سرّيين وصحافيين وكوادر من منظمات إنسانية. ولكن من هي هذه المرأة؟ وما هي الظروف والأسباب التي أدّت إلى قتلها؟ كُثُر هم الرجال الذين يرغبون في الحصول على جواب عن هذين السؤالين، مثل المحامي توم هارينغتون الذي يعمل في مجال حقوق الإنسان، وإيفيل بورنيت الذي ينتمي إلى الوحدات الخاصة الأميركية، ودولان المسؤول المتقاعد من مكتب التحقيقات الفيديرالي. وكل واحد منهم سيحاول جمع قِطَع المُرْبِكة (puzzle) وفك لغز هذه الفتاة الشقراء الجميلة التي كبرت، بفضل والدها الديبلوماسي، في كنف شخصيات تنشط في السرّ وتتحكّم في سير العالم. أما قاسمهم المشترك الوحيد فهو افتتانهم بها.
وفعلاً، تشكّل جاكي الشخصية المركزية التي تُمغنِط كل أحداث الرواية. فلتقفّي أثرها نعبر المحيطات ونعود زمنياً إلى الوراء نحو طفولتها، ثم نحو الظروف التي استبقت ولادتها وحدّدت قدرها. وفي هذا السياق، نغوص في الأحداث التاريخية الكبرى للجزء الثاني من القرن العشرين عبر باقة من الشخصيات المثيرة، أبرزها ستيبان كوفاتشيفيتش، والد جاكي، وهو كرواتي كان في سن الثامنة حين شاهد بأمّ عينه اغتيال والده على يد صربي شيوعي، واغتصاب أمّه على يد بوسني مسلم، خلال الاحتلال النازي لبلده. حدثان رهيبان سيفجّران داخله ذلك الخط الذي يفصل بين الخير والشر ويحددان بوضوح له الأعداء الذين سينذر نفسه، وابنته، لمحاربتهم حين ينتقل إلى الولايات المتحدة ويصبح في العلن ديبلوماسياً مرموقاً يحمل اسم ستيفان شابرز، وفي الخفاء مسؤولاً كبيراً في أجهزة المخابرات الأميركية.
كثافة الحبكة التي ينسجها شاكوشيس في روايته وغزارة أحداثها تجعلان من مسألة تلخيصها مهمة مستحيلة. ما يمكننا أن نقوله عنها هو أنها تحمل صدى خمسين عاماً من الحقد والانتقام والحملات العسكرية، وأن قارئها سيستمتع إلى أبعد حد في الاكتشاف تدريجياً، بواسطة حركة التقدّم والتراجع المدوخة داخل الزمن، الطُرُق المختلفة التي تتحوّل شخصياتها فيها، والطُرُق التي تتعرّى أو تتخفّى فيها فتغيّر اسمها وأحياناً حياتها كلياً. وفي هذا السياق،، لم يخطئ النقاد الأميركيون، لدى كتابتهم عن هذه الرواية، في استحضار تارةً غراهام غرين و»قناصله» الأنيقين الذين لا غبار (ظاهراً) عليهم، وتارةً جون لو كاري وشخصياته التي تتلاعب ببرودة بأقدار غيرها، وتارةً جوزيف كونراد وشخصياته المعزولة والمستكشفة لأصقاع النفْس البشرية، من دون أن ننسى أرنست همنغواي وشخصياته الهشة والثرثارة، لكن الجاهزة دوماً للسفر والترحال بين جلسة سَكَرٍ وأخرى.
لكن خصوصية شاكوشيس تكمن في تصويره الحاذق دور ترابُط قوى مختلفة في أحداث عالمنا، وفي كشفه التصادُم الثابت للحميمي والسياسي، وبالتالي تلك العلاقة الوثيقة بين القصص الفردية والتاريخ الذي يبدو متدثّراً بالمبادئ في حين أن المصالح الخاصة والأحقاد هي التي تتحكّم بفصوله. تكمن أيضاً خصوصية هذا الكاتب في قلبه التسلسل الزمني لسرديته وإشباعها بمعطيات تاريخية وجيوسياسية، وأحياناً في إيقاف عملية السرد من أجل صوغ تأملات عميقة وطرح تساؤلات قارصة حول علاقات الدين بالسياسية، والإيمان بالشعور الوطني، وحول ذلك العنف الكامن في البشر الذي يشكّل «حقيقتهم الأولى والمطلقة».
ومن خلال المغامرة المثيرة والعنيفة، الإنسانية واللاإنسانية، التي يسردها في روايته، يخطّ بورتريه معتماً ولا هوادة فيه لبلده حيث كل فعل للمسؤولين السياسيين فيه له تداعيات في سائر أنحاء العالم، فاضحاً ببصيرة وتفاصيل كثيرة دعم الإدارة الأميركية أولئك الذين أصبحوا في ما بعد أعداء أميركا اللدودين، بدءاً بالشيوعيين وانتهاءً بالتيارات الأصولية، وبالتالي تغذية هذه الإدارة فكرة حربٍ «مقدّسة» بين الخير والشر من منطلق فهمٍ أيديولوجي وسياسي للدين، ينُظر فيه إلى الشك – أي شك – كهرطقة.
يبقى أن نشير إلى أن سوداوية الرواية وعنف أحداثها لم يحولا دون نجاح شاكوشيس في تسجيل داخل كل فصلٍ من فصولها الخمسة محاولةٍ متجددة لإمكانية الحب، في شكلٍ فجّ، مجنون أو رقيق، وذلك من دون الوقوع في الكليشيهات التي تتربّص غالباً بمن يكتب في هذا الموضوع.
(الحياة)