بيني وبينك.. الطّبع والتّطبُّع عند المتنبّي

- بيني وبينك.. الطّبع والتّطبُّع عند المتنبّي - 2025-05-21
- بيني وبينك.. الصّبرُ دواء - 2024-11-13
- بيني وبينك.. خُبزٌ ودَم - 2024-09-18
يرى المتنبّي مثلما رأى مَنْ قبَله من الفلاسفة أنّ الطّبع يغلبُ التّطبُّع. وأنّه إنْ سَلَكَ الإنسانُ سلُوكًا يُخالِفُ به ما نشأ عليه، وأخذَ من قلبِهِ وعقلِه، فإنّه سرعان ما يعودُ إلى حالته الأولى، كما قال المثل الشّعبي: «عادتْ حليمة إلى عادتها القديمة» .
والمتنبّي يستخدمُ هذه الفكرة الفلسفيّة الّتي سادتْ حتّى نطقتْ بها الموروثات الشّعبيّة استِخدامًا راقِيًا، ويُلوّنها في كلّ مرّة لونًا جديدًا. وهي فِكرة سائِدة في شِعره وفي نفسِه، فهو يرى أنّ اصطِناع الأمر لا يدوم، وأنّ لبس الثّياب الّتي لا تليقُ بالمرء ولا هي على مقاسه، ولا هو يعرفها وتعرفه، سيؤول إلى نُكرانها وخَلْعِها والعودة إلى الثّوب الّذي عرفه النّاسُ به.
وسأعرضُ ذلك في ثلاثة أبيات، تُبيّن ذلك في ثلاث حالاتٍ، وهي الشّجاعة والحِلم والصّدق. فأمّا في الشّجاعة فقولُه:
وكُلُّ يرى طُرْقَ الشّجاعةِ والنَّدى
ولكِنّ طَبْعَ النّفسِ للنّفسِ قائدُ
ففي هذا البيت يقول المتنبّي: إنّ كلّ أحدٍ يستطيعُ أنْ يدّعي أنّه شُجاعٌ أو كريم، ولكنّ المواقفَ تفضحه، ونفسُه الخسيسةُ تعودُ به إلى طبيعته، وتقودُه إلى انكِشاف ما ستر، فإذا به جَبان رِعْديد.
وأمّا في الحلمِ فقولُه:
لأَنَّ حِلْمَكَ حِلْمٌ لا تَكَلَّفُهُ
ليس التَّكَحُّلُ في الْعَيْنينِ كالكَحَلِ
فهو يرى في ممدوحه أنّه حليمٌ بالطّبع، لا يتكلّف ذلك الحِلم ولا يصطنعه رياءً ولا شُهرةً، وزرى بأولئك المُصطنعين من خلال صورة تشبيهيّة رائعة، فقال: ألا ترى إلى الكحلاء الّتي خلقَها الله بصفة الجَمال هذه من عنده، ثُمّ تلك الّتي تتكحّل وتتدهّن وتتعطّر، وتحاول أنْ تجلبَ جمَالًا غير موجود، أليسَ الفرقُ بينهما بَيِّنًا واضحًا، بين الأصل والتّقليد، بين الكائن والمجلوب، وهذا في قوله الآخَر:
حُسْنُ الحضارةٍ مَجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوةِ حُسْنُ غيرُ مجلوبِ
فكذلك هو الفرق بين مَنْ كانتْ صفةُ الحِلم مركوزةً فيه ومَنْ كانتْ عن لؤمٍ وخُبثٍ واستتار، كما قال في بيتٍ آخر:
كلّ حِلمٍ أتى بغيرِ اقتِدارٍ
حُجّةٌ لاجِئٌ إليها اللّئام
وأمّا البيت الثّالث الّذي أعادَ فيه الفكرةَ نفسَها مقام الحديث في هذا المقال (الطّبع والتّطبُّع) ولكنْ بأسلوبٍ مُبتَكر، فقوله:
إذا اشتبكتْ دُمُوعٌ في خدودٍ
تَبَيّنَ مَنْ بَكى مِمّنْ تَباكَى
ومعناه إذا بكى غيرُ واحدٍ، ووقفَ في الموقفِ الواحدِ بكّاؤون فإنّه من السّهل أنْ تنظر إلى دموعهم فتميّز فيها مَنْ كان ذا دمعٍ مصدرُه القلب، ومَنْ كان ذا دمْعِ مصدرُه القدرة على التّمثيل. فالفعل (بكى) فعلُ طَبْعٍ، يصدر فيه الدّمع عن شعورٍ حقيقيّ صادق، والفعل (تباكى)، فِعلُ تطبُّع يصدرُ فيه الدّمع عن تكلُّفٍ وتظاهُر، وهذا معنى الزّيادة في بنائه.
وبعدُ؛ فإنّ المتنبّي ناطِقٌ في شِعره عن حِكمة، خبيرٌ بأدواء النّفوس، طَبٌّ بها، ومَنْ غاصَ في بحره صادَ غير هذه الدّرر، ولله دَرُّه.
AymanOtoom@
otoom72_poet@yahoo.com
** المصدر. جريدة “الراية”