تاريخ التصوُّف والاستعمار والوجود في «الملامية» لمحمد الخالدي

حمزة قناوي

رواية «الملامية» لمحمد الخالدي محاولةٌ للغَوص في الذات البشرية، والخوض في المجهول من متاهة العلاقات والتشابكات والرغبات والتأمــلات للكون وللذات بملمح يُحقِّق «تغريب» ونزع الألفة عن المفاهيم الاعتيادية، فماذا إذا كانت الخطيــــئة التي ننظر لها باستنكارٍ وقد أُقرِنَت بالإثم ملازمة للذات البشرية؟ والمهمة الأســــاسية في وســـط هذه الآثام والخطيئة – التي سيستمر الإنسان في فعلها – أن يصل الإنسان إلى التوافُق مع نفسِه ومع الكون من حوله؟ هذه الفرضية التي يدور حولها محمد الخالدي ويوازن فيها بين محاولات التطهُّر والارتقاء الصوفي في مختلف الديانات – حتى الوثنية – يقول في روايته:
«هناك يا إبراهيم، ديانات وتجارب روحية لا حصر لها، لكنها تنتمي جميعها إلى جذع واحد، وبالتالي فهدفُها أيضا واحد. فالروافد الصغيرة تصب في نهر كبير، وكل الأنهار تصب، في نهاية المطاف، مهما تاهت وتعرَّجَت، في البحار والمحيطات».
هذه الكلمة التي تأتي على لسان (ديونغ هانغ) المعلم البوذي الذي يستقطب (إبراهيم الشامي) أحد قطبي الرواية تعكس وجهة النظر التي ينطلق منها المؤلف في رؤيته؛ وعليه فـ«الملامية» ملحمة تحاول استبطان روح الإنسان من وجهة نظر مغايرة، وبدلا من الانطلاق من ساحات الأماكن المُقدَّسة كالمساجد وملتقى حلقات الذِكر، تنطلق الأحداث من الخمارَات وعلى وقع كؤوس الخمر بأنواعه التونسية والشامية الشهيرة، وهنا نصبح أمام مُفارَقَة وصَدع وظيفي في التأويل المعتاد، ونطالع اختلالا في البنية الجدلية للقراءة وفق تعريفات بول ريكور، فالارتقاء في الدرجات التي يسمو بها الإنسان عن ذاتِه البشرية، بدلا من أن يتم بنوع من التجرُّد من متع الدنيا، والإكثار من العبادات، نجده- بنوع من أنواع الفانتازيا- مختلطا مع الممارسات الحميمة، وشرب الخمر، وكلٌّ من شخصيتي (مولانا) البطل الرئيسي للرواية، و(إبراهيم الشامي) البطل الثاني في ثنايا اكتشافهما للأسرار الكونية، رغم اجتراحهما المعجزات، حتى تصبح الأمور الخارقة غير العادية التي لا تحدث إلا لكبار الصالحين وفق الموروث الصوفي الإسلامي، أمورا عادية بينهما، وهي تفاصيل يتم توظيفها لصالح رغباتهما وشهواتهما، وإن كانت أيدي القدر تعاندهما أحيانا، فيقع كل منهما – وبالأحرى كل شخصية في الرواية – في عذاباتها الخاصة، وامتحاناتها أمام الذات، التي تُفيض الذكريات عليها، وتستجلب هما خانقا للروح، يتلهى البطل في مواجهته باللجوء إلى الخمر، يقول الراوي عن حال (إبراهيم الشامي): «كان إبراهيم يختلي بنفسه في غرفته يحسو أقداح البوخا، ويستمع إلى اسطواناته القديمة المفضَّلَة، وسيجارته لا تكاد تفارق شفتيه، فيسرح في ما يشبه الغيبوبة، مستعيدا مغامراته في فيتنام، والحرب القذرة التي خاضها هناك والمشاهد الطبيعية الخلابة لهذا البلد وصورة معلمه ديونغ هانغ، وعشرات الفتيات يتهالكن بين يديه ويتناثرن أمامه، ثم يستحضر أخيرا سنواته الطويلة في دمشق، وتنقُّلِه بين الطرق الصوفية، يستجلي غوامضها، مقارنا بينها وبين تعاليم مُعلِّمه البوذي. أما الصورة التي لم تكن تفارق خياله، في صحوه وسكره، فهي صورة ياسمين، المخلوقة من الفتنة والدلال والمخلوطة بكل أطياب الدنيا ومباهجها».
رغم كل ذلك يصل كلٌّ منهما لمرحلة يصبح فيها استخدام معجزات التنقل في المكان والزمان، والقدرة على التحكم في الآخرين– كما حدث بين (مولانا) والمأمور المشهور بـ(الغضبان) الذي يقوم بظلم الآخرين، تصبح هذه القدرات غير العادية مُسخَّرة في خدمة شهواتهم، إننا إزاء حالة غريبة من حالات بناء الشخصية الروائية، خاصة مع اتخاذ الراوي صيغة الحرية المطلقة في التنقل عبر الأزمنة والأمكنة، وفي استيقاف السرد لتقديم رواية خالصة على لسانه، ما جعلنا نقف أمام شخصيات متعددة الوجوه، شخصيات ذات سمات أسطورية، يتم خرق العادي على أيديها بكل سهولة ويسر، حتى أننا نجد أنفسنا نتساءل عن كيفية قيام مثل هذه الشخصيات الموسومة بالوصول للأسرار العليا للكون بشرب الخمر، ليأتي الرد من داخل الرواية: «وقد أوّل البعض ذلك تأويلاتٍ شتَّى. منها أنّ الرجل من أولئك الذين سقطت عنهم الفرائض لما بلغه من مقامٍ سامٍ لا يبلُغُه إلاّ القِلَّة، وهذا رأي أهل الزوايا والطرق الصوفية المنتشرة في المدينة، وأنه من أولئك الذين يوهمون من يراهم بإتيان الشيء وهم، في الواقع، لا يأتونه. أما النظرية التي شاعت أكثر من غيرها فقد كانت لأحد الدراويش أو المتشبهين بهم من المتسكعين الذين تعجّ بهم المدينة. فقد حاول إقناع الناس بأن الخمر، بل البوخا تتحوّل على يديْ مولانا إلى رحيق كالذي في الجنة. والدليل على ذلك أنه لا يسكر أبدا. ولأن الجميع كانوا يبحثون في لاوعيهم عن تبرير لما يأتيه مولانا، فقد تبنّوا تأويل هذا الدرويش المتسكّع الذي كان يذرع المدينة طولا وعرضا لا يقرّ له قرارٌ أبدا، مبشّرا من يصادفهم في طريقه: هذا بزواج قريب وذاك بمولود ذكر أو مال يهبط عليه من السماء، أو منذرا إياهم بحادث أليم أو فقدان عزيز أو خسارة مالية، إلى غير ذلك من التنبؤات التي كان البعض يأخذها مأخذ الجد».
على نحو خفي، من ثنايا الرواية، يظهر الملمح الاستعماري، وما فعلته فرنسا بتونس، وحرب الهند الصينية، لقد تعقَّب الراوي ما يفعله الاستعمار في أبناء البلد الأصليين، وكيف قام الاستعمار الفرنسي بأخذ الراغبين في الالتحاق بجيش الجمهورية الفرنسية، لكي يكونوا في الصفوف الأولى لمهاجمة الفيتناميين في الحرب الفيتنامية الأولى ـ حرب الهند الصينية ـ لكي يمثلوا درعا بشريَّة لحماية الفرنسيين أنفسهم، بل حتى المدينة الأساسية التي ينطلق منها الحكي ـ مدينة الملتوي ـ حدثت تحولاتها الرئيسية بفضل المستعمر الفرنسي، ففي حكاية الراوي عن سبب التسمية، يقول: «لكنّ الأهالي أعطوها اسما آخر وُلِد من أسطورة تقول: إن ثلاثة عمّال: تونسيّيْن وفرنسيّ شاهدوا رجلا يهوي من أعلى الجبل فقال التونسي الأوّل :»مات» وقال الثاني: «لا» فيما قال الثالث، وهو الفرنسي: oui، أي نعم. وهكذا أصبحت تعرف بالمتلوِّي بعد أن حُذفت الألف من «مات» للتخفيف».
هذا الحضور للفرنسي على أرض تونس، وتغيير مسار حياة مدينة «المتلوي» مع اكتشاف الفوسفات، حتى أن هذه المدينة نشأت من العدم، يحلِّل الخالدي- على درجة أقل من التركيز على أشخاصها- تكوُّن ونَشأَة حياة من العدم، أقوام تجمعهم مناجم الفوسفات، كيف تتكون حياة من مشروع استعماري، ويتحول الأغراب الذين جاءوا لهذه المدينة إلى أصلاء، عامل الأقدمية في الإقامة فقط هو ما يفاضل بين «ابن البلد» الأصلي والوافد على هذه المدينة الغريبة، يقول الراوي: «لقد نسي معظم هؤلاء السكارى أنهم، هم أيضا، كانوا، في وقتٍ من الأوقات، غُربَاء. وإن كانوا أناسا عاديين. ثم أصبحوا، بمرور الزمن، جزءا لا يَتَجَزّأ من النسيج السكاني لهذه المدينة الصاخبة التي ليس لها تاريخٌ عريقٌ كبقيةِ المدن، وإنّما ولدت عن طريق الصدفة. لتخرج من الغيب فجأة».
إن اكتشاف المستعمر على يد فيليب توماس للفوسفات، غيَّرَ من خريطة حياة آلاف البشر، حتى أن ماضي وحاضر مدينة «المتلوي» صار يتعانق ويتشارك، ويستحيل فصله عنها، لقد كُتِب على هذه المدينة من أكثر من مئة وخمسين مليون عام على الأقل مع تشكل الفوسفات، ومع نسج الحياة على المنوال الفرنسي في المدينة، أصبحت الحياة محكومة ومحددة مُسبَقا برؤية المستعمر، إننا إزاء حالة من حالات خلط الواقع بالفانتازيا، وفي قلب هذه الفانتازيا، علينا أن ننتبه جيدا لشخصية «ماجد»!
فـ»ماجد» هو سِر تسمية الرواية، يقول الراوي على لسان (ماجد) ليسأل (مولانا): «ومن الملامتية؟ تساءل ماجد ورأسه تكاد تنفجر من هول ما يسمع.
– أنت الآن واحدٌ مِنهم، وسوف تزداد معرفة بهم قريبا إن شاءَ الله. وحتى لا أطيل عليك فإن الملامتية هم قومٌ من أهل الطريق أكرمهم الله بكشف الأسرار والاطِّلاع على أنواع الغيوب وإظهار الكرامات كما يقول عنهم البعض من المؤلفين، فكتموا أسرارهم وأبدوا للخلق عكس ما يبطنونه، على خلاف المرائين الذين يظهرون الخير ويبطنون الشر فكان الناس يلومونهم. ومن هنا تسميتهم».
إننا أمام افتراضية نظرية غريبة على لسان (مولانا) ، فبدلا من إظهار الطاعات، وإظهار الخيرات، نجد محاولة إظهار المعاصي وكتم العبادات، رغم اطلاع أصحاب هذه الأفعال على الكرامات وعلى كشف الأسرار، لقد وصلوا إلى حالةٍ من سَيرِهم في الطريق إلى الله أنهم صاروا مطلعين على أنواع من الغيوب، ويخافون إذا فعلوا الحسنات أن يكونوا من المرائين، فبدلا من ذلك صاروا يكتمون عكس ما يظهرون، هل هذا تفسير ما كنا نواجهه من حيرة في أفعال الشخصيات الرئيسية طوال الرواية؟ هل هذا سبب معاقرة الخمر لكل من (مولانا) و(إبراهيم الشامي)؟ وحتى العلاقة الحميمة تتخذ أبعادا رمزية ذات دلالات صوفية، في الحالات التي وصلت فيها النشوة الحسيِّة إلى مرحلةٍ تقترب من الاحتراق الوجداني في استرضاء شهوات الجسد، وهو الأمر الذي يُذكِّرُنا ببعض تعاليم الطقوس الوثنية في التعبد من خلال ممارسة العلاقة الحميمة، أو حتى بتاريخ طويل من «البغاء المقدس»؟ في كل الأحوال فإن الرواية في نهايتها تنقلب على ذاتها انقلابا خطيرا، لتصبح الشخصية الرئيسية الأساسية (ماجد) وليست (مولانا) ولا (إبراهيم الشامي)، ولا حتى (الأخضر الزاهر)، ذلك الذي لديه القدرة على التشكل والتحول في أي شخصية يشاء.
ورغم التناقضات المفاهيمية، والاختلافات والصدوع التأويلية، التي تجعل القارئ مشدوها في مواجهة المعتاد عليه من الأفكار والقناعات التي يُخلخلها العمل، فإن قراءة «الملامية»- الممتعة حقا- تُدخِل القارئ في حالة من الصراع الذاتي لاكتشاف ذاته من بين تفاصيل وثنايا الأحداث، حتى أنه ليبحث عن نفسه وعن ملذاته وعذاباته ورغباته في فهم الكون وأسراره السحيقة، ما خفي منها وما تجلَّى.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى