تجربة الحرب بين انتصار وهمي وناج مذنب

ستدار وقد ظهرتْ ابتسامة على وجهه قائلاً: “أتصور أن لها هذا التأثير. فأنا أغضب حين أفكر في الأوضاع، حين أفكر في الخسارة”.
“أجل، إن التفكير في الخسارة لهو أمر بشع إلا أن كينجي مات بشجاعة منقطعة النظير شأنه شأن الكثيرين غيره”.
أحدَّ صهري النظر إليّ برهة بسحنة ساكنة تفتقر إلى أي تعبير؛ وهي حركة يقوم بها من آن لآخر ولم أعتدها قط. لا شك أن نظرته الشاخصة بريئة بالفعل، لكن ربما لأن سويشي رجل موفور القوة جسمانياً وملامحه بها شيء من الإخافة، من السهل قراءة شيء مهدد أو شيء يحمل شبهة الاتهام على وجهه.
فاه أخيراً: “يبدو أن لا نهاية للميتات الشجاعة. نصف زملاء سنة تخرجي بالمدرسة الثانوية ماتوا ميتات شجاعة. ماتوا لأسباب غبية غير أنهم لن يدروا ذلك أبداً. هل تعلم يا أبي ما الذي يجعلني بالفعل غاضباً؟”
“ماذا يا سويشي؟”
“هؤلاء مَن أرسلوا أمثال كينجي إلى الميدان ليموتوا ميتاتهم الشجاعة، أين هم اليوم؟ يواصلون حياتهم مثلما درجوا طيلة عمرهم والعديد منهم أنجح من ذي قبل، يتصرفون بتأدب أمام الأميركيين، هم عين الأشخاص الذين قادونا إلى الكارثة. ومع ذلك نلبس الحداد على أشباه كينجي. هذا ما يجعلني غاضباً. يموت الشبان الشجعان لأسباب غبية والمجرمون الحقيقيون ما زالوا معنا، يركبهم الخوف من أن يظهروا على حقيقتهم، من أن يعترفوا بمسؤوليتهم”. وأنا متأكد أنه قال عندئذ وهو يمد بصره نحو الظلمة بالخارج: “هذا في رأيي أفدح جُبن على الإطلاق”.
استنزفتْ المراسم قوتي وإلا ربما كنتُ فندت بعض افتراضاته لكني قدَّرت أن فرصاً أخرى ستسنح لمثل هذا الكلام فغيرتُ دفة الحديث لمواضيع أخرى. أتذكر أني وقفت معه في ذاك المكان، أرنو بالخارج إلى الليل الذي أرخى سدوله وأسأله عن عمله وعن إشيرو. لم أكن وقتها قد رأيت سويشي منذ عودته من الحرب، فكانت تلك أول تجربة لي مع صهري المتغير الساخر نوعاً ما الذي بدأتُ اعتاد عليه الآن. وقد أخذني العجب ذاك المساء لأني وجدته يتحدث بتلك الطريقة، بلا أي ملمح لما كان عليه من سلوكيات جامدة قبل الحرب؛ فعزيت ذلك إلى ما واكب مراسم الدفن من تأثير عاطفي وبوجه أعم لما صاحب تجربة الحرب -الرهيبة كما ألمحتْ سيتسوكو- من أثر هائل.
لكن الواقع هو أن ما ألفيته عليه من مزاج في تلك الأمسية يتماشى بالفعل مع مزاجه العام هذه الأيام؛ فما جَد من تحول على الشاب المهذب المتواضع الذي تزوج سيتسوكو قبل الحرب بعامين جد لافت للنظر. إنه لمأساوي بالقطع أن تزهق أرواح العديد من شباب جيله مثلما حدث لكن لِم يتحتم عليه أن يضمر تلك المرارة للأكبر منه سناً؟ إن أفكار سويشي تتصف الآن بالصلابة وتقريباً بالخبث مما أجدها مقلقة، وأكثر من مقلقة نظراً لأنها تخلف أثراً في سيتسوكو.
إلا أن هذا التحول لا يقتصر على صهري وحده. فأنا أشاهده الآن في كل مكان من حولي؛ إذ تبدلتْ شخصية الجيل الأصغر تبدلاً يستعصي عليّ استيعابه كلية، ولا يمكن إنكار أن بعض جوانب هذا التحول موجبة للانزعاج. فمنذ بضع ليال مثلاً، اتفق أن نمى إلى مسامعي بحانة السيدة كاواكامي صوت رجل يجلس بعيداً إلى الطاولة وهو يقول:
“سمعتُ أنهم أخذوا ذاك الأبله إلى المستشفى، مصاب بالقليل من الضلوع المكسورة وارتجاج في المخ”.
“أتعني الولد هيراياما؟” سألتْ السيدة كاواكامي بنظرة يريم عليها القلق.
“أهذا اسمه؟ مَن يهيم صائحاً في الأنحاء على الدوام. يتعين حقاً على أحدهم أن يدفعه إلى الكف. الظاهر أنه أبرح ضرباً مرة أخرى الليلة الماضية. من العار أن ينفثوا عن غضبهم في أبله مثله مهما كان الذي يصيح به”.
استدرت إلى الرجل لحظتها قائلاً: “معذرة، أتقول إن الولد هيراياما هوجم؟ لِم؟”
“البادي أنه استمر في غناء واحدة من أغانيه العسكرية القديمة إياها وترنيم نداءات الحرب الرجعية”.
* مقطع من رواية “فنان من العالم الطليق”
(العرب)