تحولات المدينة وانسحاب النفوس

أحمد باشا

من بين الأفلام العربية العديدة التي عرضت في مناسبات أو صالات فرنسية في الآونة الأخيرة، يمكن التوقف عند عملين يجمع بينهما انتماؤهما الى سينما وثائقية شبابية تحاول أن تطلّ على الحاضر في بيروت بعد سنوات الحرب وفي زمن الارتباك الذي تعيشه المدينة وتبدو السينما وصناعها الجدد خير من يعبر عنها.
في الفيلم الأول، وعنوانه «كنت نام عالسطح» نرى كيف تحولت بيروت خلال السنوات الخمس الماضية الى نوع من محطة عبور لفئات من السوريين نحو بلدان أوروبا وأميركا حيث سيكون بإمكانهم متابعة حياتهم وتأمين مستقبل أفضل لأطفالهم بعيداً من الموت اليومي الذي يخيم على البلاد. وينطبق هذا الكلام بخاصة على من يستطيعون تدبير أمورهم بالحصول على فيزا، سواء للدراسة أو اللجوء أو حالات لم الشمل، على عكس مئات الآلاف الذين لا قدرة لهم حتى على مغادرة مخيماتهم. حيث في فيلمها الأول «كنت نام عالسطح» (61 د، 2017)، الذي عرض ضمن فاعليات الدورة الأخيرة لمهرجان «فيد مرسيليا»، تصوّر اللبنانية أنجي عبيد (27 عاماً) إحدى الشخصيات التي مرّت ببيروت: سيدة سورية (نهاد خوري، 53 عاماً) كغيرها من الذين عبروا لبنان نحو أوروبا.
قررت نهاد أن تغادر دمشق سنة 2015، واستقرت في بيت أنجي (صديقة إبنها) في بيروت. يبدأ الفيلم بالحوار بين الشخصيتين حول سفر نهاد نحو أوروبا لتبدأ حياتها من جديد. تقضي اللاجئة السورية معظم وقتها وهي تتقصى المعلومات على شبكة الإنترنت في سبيل معرفة الوسيلة الأفضل للهجرة، فنجدها في كثير من أوقات الفيلم أمام جهاز الكمبيوتر أو مع الهاتف المحمول. إذاً لا حدث في الفيلم سوى انتظار السفر، وكأن العبث هو الملجأ الوحيد للشخصيتين ضمن جو شقة أنجي المفعم بالكآبة.
لا أسئلة ولا صراعات يبرزها الفيلم حول هواجس وقلق المرأة السورية في الهجرة نحو عالم جديد وغريب، إلا أن الصمت يبدو في بعض لحظات الفيلم معبراً، فما يقال ثانوي جداً أمام هذه اللحظة في حياة نهاد. لكن الصمت وحده لا يكفي للعبور نحو معرفة الشخصية والغوص في تعقيداتها.
تنعدم اللقطات الخارجية في الفيلم، فتلتقط الكاميرا يوميات أنجي ونهاد داخل جدران الشقة، التي تبدو منفصلة تماماً عن فضاء المدينة، فالهاجس هو العبور نحو أوروبا، وفي سبيله تحاول نهاد تعلم اللغة الفرنسية تارة والألمانية تارة. ولا تحضر بيروت إلا في لحظات قليلة كأثناء الحديث عن الألعاب النارية وعن عمال النظافة.
يبدو شريط عبيد وكأنه صنع على عجل، فكان يحتمل الكثير من الحذف من دون أن يمس ذلك بجوهر المادة الفيلمية، وكذلك يحتمل إعادة الاشتغال على السيناريو الذي ظهر رخواً في مواضع كثيرة. كذلك لم نلمح إصراراً وعناداً عند صناع الفيلم على الاشتغال على خيوط كان من الممكن أن تقتل حالة الرتابة في الفيلم وتجعله أكثر حيوية، كالاشتغال مثلاً على الفضاء الذي تتحرك فيه شخصيتان تنتميان إلى جيلين مختلفين في التجربة، وتمتلك حتماً كل منهما اختلافات جوهرية في حجم الأسئلة وطبيعتها، لا سيما تلك التي تبدأ بالهجرة ولا يمكن أن تنتهي لا بالأنوثة ولا بالحرب ولا بسؤال الوجود.

نظرة بانورامية
وفي سياق الحديث ذاته عن الفيلم الأول لمخرجة لبنانية، قدمت رنا عيد في شريطها الوثائقي الأول «بانو أوبتيك»(70 د، 2017) نظرة بانورامية على بيروت وذاكرة الحرب عبر حكاية والدها الذي كان ضابطاً في الجيش اللبناني. الشريط الذي عرض مؤخراً في مهرجان «لوكارنو السينمائي»، تستفيد صاحبته من خبرتها الطويلة من عملها كمهندسة صوت لتقدم بناءً صوتياً مشغولاً بعناية فائقة، ليظهر عنصر الصوت في الفيلم وكأنه بناء هرمي يوازي بناء الفيلم. وما يدفعنا هنا إلى استخدام مفردة بناء هو الاشتغال الاستثنائي على توليف الأصوات ودمجها لتبدو وكأنها حوارات درامية تسيّر أحداث الفيلم، فمن أصوات المروحيات إلى تجويد القرآن الكريم وأصوات الزحام وعواء الكلاب والضجيج الممنهج وغيرها، ثمة حكاية تروى وتؤسس لذاتها بذاتها.
«العميد عيد» والد المخرجة، الذي تروي سيرته، كان يرفض هذا اللقب ولا يحبذ أن يقدم بهذه الطريقة. رجل مؤمن بالقضايا التي دفنت مع البشر في هذه المدينة التي لا يمكن وصفها إلا بالغرابة الشديدة. بيروت، كما صورتها عيد الابنة، مدينة تدفن الجميع تحتها لتبدو وكأنها شُيدت على مقابر متراكمة، على خلاف ما تظهره حركة البناء والبشر في قسمها العلوي، وما نراه في الأعلى، أي في حياة بيروت اليومية، هو ظاهري فقط وسرعان ما ينقضه الفيلم ناسفاً ادعاءاته.
منذ اللحظات الأولى للفيلم تأخذنا المخرجة نحو أقبية مركز توقيف الأجانب المخالفين، الأجانب باللغة والصوت (كما تصفهم عيد)، فنرى بؤس معاملة العسكر للعمال القادمين من أنحاء مختلفة بحثاً عن لقمة العيش، من إثيوبيا والأردن والسودان وبنغلادش وغيرها. سرعان ما ينقلنا الفيلم للحديث عن غرباء آخرين، غرباء يشاهدون برج المر يومياً، المكان الذي كان قسمه العلوي مركزاً للقنص، والسفلي مركزاً للاعتقال والتعذيب. كذلك يشاهد المارة بشكل يومي مركز «البوريفاج» الذي كان مركز قيادة المخابرات السورية أيام الوجود السوري في لبنان، والذي كان قسمه العلوي فندقاً والسفلي مركزاً للاعتقال والتعذيب الممنهج. ثنائية الأعلى والأسفل لم تتغير شروطها إذاً، بخاصة في بلد انتهت الحرب فيه من دون أن يحاكم فيه أحد، أو كما تقول الراوية في الفيلم «خرجنا من الملجأ ولكننا لم نخرج من تحت الأرض».
قرر الضابط عيد أن يخلع بزته العسكرية بعد أن صار القتلة أحراراً، يجولون ويتحكمون في شؤون لبنان واللبنانيين. هكذا وصولاً إلى الحدث الذي يتماهى فيه الخاص بالعام، اللحظة التي مثلت القضاء على ما بقي من بصيص أمل: 7 أيار 2008، حينها كان العميد في المستشفى يتعالج، ليخرج ويتوقف قلبه بعدها بشهر مفارقاً مكاناً داهمته الكوابيس من كل حدب وصوب.
«بانو أوبتيك» فيلم وثائقي يفتح جميع الأبواب على أسئلة قد لا يشفى صاحبها منها إلا بموته، أسئلة تتعلق بالتاريخ والحرب والراهن اللبناني. لكن إن كان هناك شيء من التفاؤل فهو ما تفترضه هنا هذه المعالجة البصرية -الصوتية الجديّة التي قامت بها عيد، جنباً إلى جنب مع مدير تصوير مجتهد اسمه طلال خوري، ومونتاج جريء ومحرض على التفكير وضعته رانيا اسطفان.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى