تردُّد” للتركية يشم أُسطة أوغلو.. بلاء العنف.

زياد الخزاعي

لك عينان”، تقول الطبيبة النفسية الشابة شهيناز لزميلها، ولاحقا عشيقها ومُخلّصها، في الشريط السادس للتركية يشم أُسطة أوغلو “تردُّد”، وتضيف: “الأولى ترى بجلاء، فيما تُبصر الأخرى القَتَمة”، راسمة خطّاً مموّهاً بين الجرح الشخصي وخطاياه، والمهانة و”تكفينها” الرمزي لضحاياها، والأذيّة ولا ثوابها الإجتماعي. هذه امرأة مكلومة بالغدر. نلتقيها في مفتتح الفيلم بطلّة أرستقراطية ومدينية “متأوربة”. شابة حسناء ديناميكية ومحبوبة تعيش أعراف أهل أسطنبول في بلدة ساحلية بعيدة عن حبيبها جيم (الممثل مهمد كورتولوش المعروف بتعاونه مع المخرج الألماني التركي فاتح أكن) المدمن على مشاهدة أشرطة “البورنو”.
كائن شبقي لا يتستر على “عادته السرية” الكمبيوترية، مستنفذاً لاحقا قواه الجنسية مع نساء أخريات، فارضاً على الحبيبة تحمل إنقطاع شهواته معها، وسماع تبريراته والإقتناع بتلفيقات صباباته، قبل ان ينقلب الى وحش يسوّمها تعنيفاً جسدياً وإمتهاناً إعتبارياً. تمهيد درامي بارع ومكثف سرعان ما يصطدم بحياة أخرى أكثر بؤساً وأشد قسوة، بطلته أنثى أخرى ذات محيّا جامد وسحنة بلا عواطف. شابة محكومة بسجن أسري يدفعها للعيش في جفوة تفرضها عبوديّة شخصين، هما زوج بلا مهجة ووالدته المريضة الفظّة (دور ثانوي وقوي للممثلة المسرحية الذائعة الصيت في تركيا سِما بيراس).
ثقافتان
حينما تستحضر شهيناز ثنائية “الجلاء/ القَتَمة”، إنما ترمز الى عالمين ثقافيين وطبقيين يتناقضان بأعرافهما وأخلاقياتهما وطبائع بشرهما ومصالحهما، برغم اجتماعهما على خاصية إنسانية فريدة تؤمن أن للعنف لعنة واحدة ومذمّة واحدة وعورة واحدة. تعي الطبيبة النفسية لاحقا أن يومياتها مع الحبيب تنخرط ضمن تعهّد وجاهي أمام الأخرين، يراعي السمعة ولا يلتفت الى الأمانة. يخسر هذا التعهد ألفته وقدرته على بقاء حبهما وجذوته، مع تصاعد العداوات بينهما وتعاظم شكوكها. هي تريد إستكفاءً جنسياً يقوم على توازن محبة، فيما يتهرب “جيم” من إستحقاقات المطلب العاطفي، محولاً أنثاه الى “ثقب تفريغ” خال من الحقوق والإنصاف والسويّة.
كائنان يمثلان دور زوجين ملفقين حيث أن حياتهما المفعمة بثراء وأصدقاء وإبداع ورفعة إجتماعية تكتّم تحت بهرجتها كماً كثيفاً من رياءات وشرور وتجريحات وإنفلالات. على الطرف الأخر من المدينة البحرية، تنذر إلماس (إداء قوي من أوجيم أوزن) كيانها ومستقبلها الى ضيم يتقبّح. ترتضي حصارها الذاتي كقدر مغلق يستكمل عرفاً قبلياً ودينياً يعدّها عورة عائلية. واجبها القبول بجماع جنسي يومي يحققه رجلها، المديد القامة والخانع لسطوة أمه، كإغتصاب ليلي يتمّ تحت لهاث جملة ناشفة الإحساس، يهمسها بشبق في إذنها “لا تخافي مني”، فيما تتمتم الضحية بأدعية تحميها من الضرر، مستدعية تحمّلها وبأسها، متوجعة من إختراق مشؤوم وإكراهي ونزفه الشديد. تنتظر هذه الصبية، الملفحة الرأس والمحظور مغادرتها البناية، فرصها المؤوودة كي تكسر أصفادها الأزلية. تتلصص من شرفتها على إبنة الجيران اليافعة وهي ترقص، وتسرق لحظات تدخين لفافة قبل ان تنكب على تنظيف الأم وحقنها بـ”الأنسولين” الذي ستستعمل عبواته لاحقا سماً غادراً يمحق السيدة البدينة، بينما تخنق إبنها بغاز موقد غرفتهما الزوجية تحت صخب عاصفة بحرية، تسمعها شهيناز في الوقت ذاته وهي محاصرة بوحدتها وعذابها من خيانات رفيقها وترهاته.
اللعبة السينمائية
تحقق صاحبة “رحلة الى الشمس”(1999) و”أعراف”(2012) ثنائية الجلاء/ القَتَمة بفوّرة ميلودرامية باهرة عبر إلتقاء الشخصيتين المنكوبتين بهزيمتيهما داخل مستشفى حينما تُستدعى شهيناز للإشراف على حالة إلماس إثر نقل الشرطة لها مخفورة بتهمة تصفية زوجها وكنتها، وتمهيداً للتحقيق والقصاص. هنا، يتحول توزيع الأدوار بينهما الى لعبة سينمائية حصيفة. كلما أقتربت إبنة المدينة والحداثة من فك لغز الزوجة الريفية والأمية ودوافع جريمتها، يتوضح لها برعب إنها نفسها ضحية خديعة مقابلة. فلئن أُجبرت إلماس على تزوير عمرها كإبنة الـ13، وإدعاء أهلها انها امرأة بالغة تبريراً لتزويجها من (أو بيعها لـ) إبن مدينة ووريث تجارة، ضماناً لحياة ميسورة وتخلصاً من ضنك عمق تركي ناء ومنسي، يحيل ذلك الإجبار دورة حياتها الى قساوة يومية ولا إنصاف أناس يرون فيها كائناً مُستَرَقّاً لا يستحق الشفقة أو التعاطف. فإن شهيناز (إداء رائع من الممثلة المسرحية فوندا أرييت) تقع بدورها فريسة قناعة وتشوّف مزوّرين جعلاها تؤمن بأن رجلها وصاحب ثقتها هو ضمانة عاطفية ووجه مكمل لطبقيتها قبل ان يتكشف عن كائن مراوغ حولها الى “جارية جنسية”، تنتهي علاقتهما بمشهد قوي التنفيذ وصاخب ومفعم بالخزي، نراهما فيه وهما يتبادلان الضرب العنيف والشتائم. صفت إلماس عائلة إستذلتها سعيا الى أمان مجهول يقع بين الجنون والإستضعاف، فيما لن تصيب ضربات شهيناز وجه الخؤون بل عمق إيمانها وطمأنينتها، وهي مصعوقة بمرارات وإغتصابات عبثت بجسدها وكرامتها. تستثمر المخرجة والمؤلفة أُسطةأوغلو (مواليد 1960) الإستشفاء النفسي وألعابه لتضع مشاهدها ضمن “مسرحة ـ سينمائية” تتبادل فيها “المجرمة” دوري الضحية والقاتل، لتتقابل خلال تلك الجلسة المطولة معاصي تعنيف امرأتين معا. الأولى سيدة ذات نظرة “جلاء” الى موقعها الإجتماعي وقوّتها كمواطنة تنتمي الى قطاع نافذ وعميق الجذور، بيد ان التشنيع ينال منها قبل ان تجد حباً حقيقياً ومؤتمناً وان جاء متأخراً في شخص زميلها ابن قبطان البحر المفقود، فيما تبقى الأخرى مسكونة بـ”قَتَمتها” وظلامها ككائن مرتبك ونكوصي، عاره الجهل وعقابه الإقصاء.
الطوق المدمر
ترجم مدير التصوير الألماني مايكل هامون، عنوان “الجلاء/ القَتَمة” الذي حمله الفيلم في نسخته العالمية، والمتعلق بتوزّع الضوء والظل في الصورة الى مشهديات باذخة بالتضادات وعتماتها، والمحاكات اللونية وتدرجاتها الموزعة بين البطلتين بقسطاط درامي محسوب حيث ثوّرها هامون في عوالم شهيناز الأرستقراطية، فيما غلب عليها طابعا سوداوياً في حالة إلماس بسبب مشاهدها الداخلية في الغالب. أيضا، لعب الثنائي أُسطةأوغلوـ هامون على تقنين لقطات الشريط مغلبين خياراً حكيماً لنوعية الـ”كلوز أب”(المقرّبة) العاكسة، على طريقة المعلّم السويدي أنغمار برغمان، للشرور الفارضة على البطلتين طوّقاً سايكولوجياً ضاغطاً وتدميرياً. فيلم “تردُّد”(105 د) عن تعنيف المرأة، لم يرضخ لإرتباك رؤية أو تحيّر موقف أو تخاذل شجاعة بشأن لعن مرتكبيه أفراداً أو سلطات أو عمائم

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى