تشكيلي تونسي آثر العزلة ليرسم ألوانه الخاصة

حسونة المصباحي
في ضيعة مطلة على البحر بريف مدينة نابل التونسية يقيم منذ عقود الفنان التشكيلي التونسي رفيق الكامل، وفيها مرسمه الخاص ومتحفه الشخصي، والذي جمع فيه لوحاته والبعض من لوحات أصدقائه التشكيليين، حيث احتوت قاعة الاستقبال على أيقونات لأصدقائه كالراحل عبدالرزاق الساحلي، ابن الحمامات، والهادي التركي الذي أصيب بشلل نصفيّ قبل ثلاث سنوات، وأحمد الحجري الذي يقيم في باريس منذ الثمانينات من القرن الماضي، وإلى جانب لوحات هؤلاء لوحة لحفيدته الصغيرة التي لم تبلغ بعد العاشرة من عمرها.
وفي بداية لقائي به، قال لي رفيق الكامل “أنا أميل إلى العزلة، والعمل في الصمت، وقد وفّرت لي هذه الضيعة ما أبحث عنه، وإليه أتوق، وفيها لا أشعر أبدا بالضجر لأن ثراء عالمي الداخلي يحميني من ذلك، ثم إني أعمل طوال الوقت، في الليل كما في النهار… وأحبّ أن يفاجئني نور النهار الطالع وأنا منكبّ على العمل، وعندما أتعب أتمدد على الأريكة لأقرأ قصائد مَن أحبّ مِن الشعراء مِن أمثال بودلير، وبول ايلوار، ولامرتين وغيرهم”.
ويضيف الكامل قائلا “هذه الضيعة تحميني من صخب الخارج الذي ازداد ارتفاعا وعنفا خلال السنوات الأخيرة، والسياسيون الجدد الذين جاءت بهم الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي لا يكفون عن الثرثرة حول مسائل غالبا ما تكون تافهة، وجلهم لا يعيرون الثقافة والفن أي اهتمام، وأنا أعتقد أن الثورات الحقيقية هي ثورات ثقافية وفكرية وفنية، وليست فقط سياسية وأيديولوجية، ولا أخفيك أنني حزين لما حدث ويحدث في العراق وفي سوريا وفي ليبيا وفي جلّ البلدان العربية، فهناك حركة ارتداد وتراجع مرعبة أظنّ أنها ستطول”.
طفلا كان رفيق الكامل يحب أن يرسم في الكراريس والدفاتر المدرسية، فقد كان يكره الرياضيات، ويجد صعوبة في حفظ القصائد المقرّرة في البرامج المدرسية، وكان يرسم مشاهد طبيعية وحيوانات، وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا اختار دراسة الفنون الجميلة.
وفي أواسط الستينات من القرن الماضي وبمبادرة من الشاذلي القليبي، وزير الثقافة التونسية آنذاك، حصل الكامل على منحة دراسة خوّلت له الإقامة في مدينة الفنون بباريس، وعن هذه التجربة يقول “لقد فتحت سنوات باريس عيني على تجارب فنية عالمية، ووسّعت آفاقي، فقد زرت العديد من المتاحف ليس في باريس وحدها، بل في أغلب المدن الفرنسية والعواصم الأوروبية… وسمحت لي بالتعرف على مشاهير المثقفين والكتاب والشعراء، فقد جالست جان بول سارتر أكثر من مرة، وكان يسميني ‘Le Tunisien’ (أي التونسي)، كما تعرفت على الفنان ليو فري الذي تعجبني أغانيه، وعلى آلان كريفين الذي كان يتزعم التيار التروتسكي، وقد حاولت أن أزور بيكاسو، إلا أنني لم أتمكن من ذلك… ففي كل مرّة أحاول فيها ذلك، أجده مريضا، أو منشغلا بالعمل ولا يرغب في استقبال الزوار والمعجبين”.
ويضيف الكامل “عندما اندلعت ثورة الطلبة في ربيع 1968 بفرنسا تابعتها، لكني لم أشارك فيها ولم أتحمس لها مثلما كان حال أغلب أبناء جيلي، فأنا لا أحب السياسة، وما كان يشغلني آنذاك، وسيظل يشغلني حتى النهاية هو الفن، نعم الفن وليس شيئا آخر”.
وعند عودته إلى تونس في أواخر الستينات من القرن الماضي، وجد الفنانين منشغلين بالمعارك الدائرة بين جماعة “مدرسة تونس” التي يمثلها حاتم المكي، وعبدالعزيز القورجي، وعمار فرحات، وآخرين، والفنانين الجدد الذين كان يمثلهم الفنان نجيب بالخوجة.
ويقول رفيق الكامل عن تلك الحقبة “رغم أني كنت من الجيل الجديد آنذاك، إلا أنني لم أرتح كثيرا للطريقة التي كان يستعملها نجيب بالخوجة في معركته ضد جماعة ‘مدرسة تونس’، فقد كان يميل إلى الاستفزاز، والحط من قيمة فنانين أعتبرهم من أفضل الفنانين التونسيين في القرن العشرين، وشخصيا استفدت كثيرا من تجارب هؤلاء، وحتى الآن لا أزال مفتونا بحاتم المكي الذي كان شديد الإعجاب بنفسه، وقد يكون له الحق في ذلك، فهو بالفعل فنان كبير، كما أني لا أزال مفتونا بتجربة عمار فرحات، الفنان العصامي الذي جاء من الريف، وكنت أحب أن أجالسه في مقهى باريس، وأنا أعتقد أن صديقي الهادي التركي كان له فضل كبير عليه، فقد ساعده كثيرا في بداياته، وهو الذي لعب دورا مهما في التعريف به، وفرضه في المشهد الفني في الستينات من القرن الماضي، أما شقيقه الفنان المرموق زبير التركي فقد كان يكنّ لعمار فرحات تقديرا لم يكنه لأي فنان آخر”.
يضيف الكامل “إجمالا، أعتقد أن الفنان الحقيقي لا يفرض نفسه بالحط من قيمة الآخرين، بل بعمله أولا وأخيرا، لذلك خيّرت أن أنأى بنفسي عن تلك المعركة، وأن أهتم بعملي فقط، ومع فنانين من جيلي من أمثال محمود السهيلي، ورضا بن عبدالله، وآخرين، شرعت أعرض في غاليري أنشأه توفيق الترجمان الذي كان يشرف على الاتحاد الدولي للبنوك، وكان مغرما بالفن، وقد اشترى العديد من لوحاتنا، وساعدنا على التعريف بأنفسنا لنصبح في ظرف سنوات قليلة من أبرز رموز الفن الجديد”.
في نهاية السبعينات من القرن العشرين، أصبح رفيق الكامل يحتل مكانة بارزة في الفن التشكيلي التونسي، فقد عرضت لوحاته في القاهرة، ودمشق، وجدة، وباريس، وميونيخ، وجنوب إسبانيا وبلجيكا، كما شارك في معارض جماعية أهمها معرض في “معهد العالم العربي” بباريس الذي شارك فيه كل من المغربي محمد القاسمي والعراقي ضياء العزاوي.
ويقول رفيق الكامل “هناك فنانون كبار في المشرق كما في المغرب، وأنا أكن تقديرا كبيرا لصديقي الراحل محمد القاسمي، وللفنان العراقي ضياء العزاوي، وفي تونس أنا معجب بأعمال الهادي التركي، والوضع الذي يعيشه راهنا بعد أن أصيب بالشلل يؤلمني كثيرا، وأعتقد أن صديقي الراحل عبدالرزاق الساحلي يتميّز بموهبة فنية عالية، وكان رحيله الفجئي ضربة قاسية بالنسبة إلي، وبالنسبة إلى الفن التونسي الأصيل”.
في نهاية اللقاء، قطع معي رفيق الكامل مسافة قصيرة في المسلك الريفي الأحمر، وقبل أن أودعه سألته “وما اللون بالنسبة إليك؟”، فكّر قليلا، ثم أجاب “لكل يوم لونه، وأفضل لون هو الذي يبتكره خيالي، وليس الذي في الواقع!”.
(العرب)