جابر عصفور يرى أن الوعي الثقافي العام ينحدر منذ أيام الرئيس المؤمن

الجسرة الثقافية الالكترونية
محمد الحمامصي
يجمع الناقد والمفكر د. جابر عصفور في كتابه “عن الثقافة والحرية” الصادر أخيرا عن مركز الأهرام للنشر، مقالاته التي نشرها خلال خلال السنوات الأخيرة، والتي تناول فيها الثقافة من حيث هي سلطة معرفة ووعي ملازم للحوار، ونقيض حتمي لكل أشكال التمييز، وأفق لا نهائي من الحرية بكل أنواعها، وقسمه إلى أربعة أقسام الأول عن الثقافة، والثاني دفاعا عن حرية الفكر والإبداع، والثالث ضد التمييز الديني والاعتقادي، والرابع ثورة 1919 من منظور مغاير.
عالجت فيها المقالات إشكاليات ورؤى عميقة في الخطابات الثقافية والدينية والسياسية المصرية، التي أصابها ما أصاب المجتمع المصري كله من أمراض التخلف والتسلف منذ عقد السبعنييات الذي أطلق فيه الرئيس أنور السادات يد السلفيات سواء القائمة في الداخل أو القادمة من الخارج، وأعلن حربه على اليسار والعلمانية، واستمرار الانحدار الذي انتهى إلى صعود قوى الظلام والرجعية إلى سدة الحكم.
في ثلاثية الدولة والثقافة والتثقيف يرى جابر عصفور أن الثقافة هي أشكال الوعي الاجتماعي التي تشمل خبرات المجتمع وقيمه وإبداعه، فضلا عن تراثه المادي والمعنوي بكل ما ينطوي عليه من عادات وتقاليد وموروثات، تظل لها فاعليتها وتأثيرها في المجتمع، أما التثقيف فهو العملية التي تقوم علي الاختيار من أشكال الوعي وموروثاته ما يصوغ الوعي الثقافي العام للأمة أو المجتمع، وذلك علي نحو لا بد فيه من تكامل دور الدولة ومؤسسات المجتمع المدني علي السواء.
وهذه العملية موجهة بالضرورة، تسعي إلي غايات سلبية أو إيجابية، فتهدف - في أحوال الإيجاب - إلي الارتقاء بالمجتمع ودفع وعيه إلي اختيار طريق التقدم الصاعد الذي لا نهاية له أو حد، كما تهدف في أحوال السلب إلى العودة بالمجتمع إلي الوراء، والسير عكس عقارب الزمن، وذلك على نحو يجعل الإطار المرجعي للحركة هو الماضي الذي يغدو بمثابة الأصل الذهبي الذي ينبغي أن يقاس كل شيء عليه، وذلك علي نحو تغدو معه حركة التاريخ حركة انحدار، كل ابتعاد فيها عن نقطة الانطلاق أو العصر الذهبي هي انحدار متواصل في زمن يزداد انحداره كلما مضت به وفيه العقود والسنوات والأيام”.
ويضيف: التخلف هو النتيجة الحتمية لهذا النوع من عملية التثقيف التي تقترن بشيوع التعصب وهيمنة طبائع الاستبداد الديني والسياسي والفكري على المؤسسات القائمة بعملية التثقيف، فتشيع السلطة السياسية بواسطة أجهزتها القمعية والإيديولوجية ثقافة الإجماع والإذعان والطاعة ورفض الاختلاف وتقديس الحكام “أولي الأمر” الذين لا يجوز الخروج عليهم، وإن جاروا، كما يقول المذهب السلفي.
وتتحالف القوي الدينية مع السلطة السياسية في الاعتماد على مبدأ التعصب، ومن ثم نبذ المختلف والقضاء عليه ماديا أو معنويا وحتى عندما يحدث صدام بين القوى السياسية والقوى الدينية، أو ينشأ صراع على السلطة، فإن المبادئ الحاكمة تظل واحدة ما ظل الجامع بين هذه وتلك هو الأصولية التي لا تفارق طبائع الاستبداد، سواء كانت هذه الأصولية أصولية المجموعات الدينية المتحالفة مع الدولة التسلطية أو المعادية لها، أو أصولية الدولة التسلطية التي تظل ملتصقة بهذه الصفة ما ظلت معادية للحراك السياسي وتبادل الحكم، متمسكة برفض الاختلاف والتعددية، كارهة للديمقراطية الحقيقية، رافعة شعارات براقة بلا مضمون حقيقي، أو مقيمة انتخابات لا تخلو من تدخل أدوات الدولة القمعية.
ويوازي ذلك، على المستوى الاجتماعي، شيوع قيم التراتب الذكوري “البطريركي” الذي يجعل الكبير أفضل من الصغير على الإطلاق، والذكر أفضل من الأنثى في كل الأحوال ولا يفارق ذلك المستوى الفكري، خصوصا حين يتجاوب مع ذلك كله العقل التقليدي الذي يغدو عقلا جمعيا، يؤدي إلى تقليد اللاحق للسابق سياسة وفكرا وأدبا وفنا ودينا”.
ويؤكد عصفور أن التقدم هو النتيجة الطبيعية لنقيض التثقيف السلبي، حيث تنبني عملية التثقيف على إشاعة ثقافة الديموقراطية والمشاركة السياسية، متقبلة حق الاختلاف، محترمة لضرورة تدوير السلطة ورموزها السياسية، الأمر الذي يؤدي إلى تمكين الدولة المدنية بكل قيمها الملازمة للفصل بين السلطات واحترام الدستور والقانون، ومن ثم احترام حقوق المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين على أي أساس، فينمحي التمييز الديني، والسياسي، والاجتماعي، ويشيع فكر الإبداع والاجتهاد، مقابل تقلص الاتباع والتقليد، ويغدو الباب مفتوحا على مصراعيه لكل أشكال الإبداع الفكري والفني والأدبي دون رقابة، أو تقييد لحريات التعبير والإبداع في كل مجال، سواء من الدولة أو من المجموعات الموازية أو المعادية لها، وإذا شاعت حرية التفكير اتسعت آفاق العقلانية المدنية التي تغدو مقدمة لازمة لكل تطور في البحث العلمي والتطبيقي، وتنتهي فتاوي المتزمتين دينيا الذين عكروا علينا حياتنا، فأصبحوا أشبه بتلك السحابة السوداء التي تظللنا في هذه الأيام الصعبة”.
ويشير د. عصفور إلى أن واحدا من أهم التحديات المطروحة على الثقافة المصرية، كي ترتفع بمكانتها، وتحقق المزيد من الحضور، لا الهيمنة، أن تسعى إلى تغيير علاقات الانتاج الثقافي وأدواته على السواء، فذلك هو السبيل الوحيد للتفوق الذي يمكن أن يتحقق سواء في حالي التكافؤ والتنافس الذي أصبح أمرا واقعا، لا مهرب منه وتطوير علاقات الإنتاج الثقافي يبدأ: أولا من داخل الثقافة المصرية، وتحويلها عن علاقات التراتب القمعي سياسيا واجتماعيا ودينيا إلى علاقات التكافؤ الذي يقوم على المساواة المقترنة بالديمقراطية السياسية والانفتاح والحراك الاجتماعيين، والاجتهاد الديني الذي يغدو حقا لكل مسلم، يمتلك أدوات الاجتهاد.
ويضيف أن ذلك يعني الانتقال من هيمنة التديين، أي المبالغة في إقحام الدين في كل شيء إلي هيمنة التمدين، الذي يعني الانحياز إلي المجتمع المدني والدولة المدنية بقيمها التي لا تتعارض مع القيم الدينية، بل تصونها وترعاها، فتمنح المواطن ما يكمل حرياته بحرية الاعتقاد، وحق الاجتهاد في مجال الفكر الديني الذي هو فكر بشري في نهاية الأمر، ويوازي ذلك الانتقال من علاقات يغلب عليها التحريم الذي يتخلل كل جوانب الحياة إلى علاقات تغلب عليها الإباحة ما ظل الآخر متعلقا بالمصلحة العامة، ولا ينفصل عن ذلك الانتقال من هيمنة التقليد المقترن بالإذعان والتصديق إلى الفضاء المفتوح للابتكار والابتداع، ومن ثم إلغاء القوانين المقيدة لحرية الفكر، وقصف أظافر الجماعات والمؤسسات الموكلة بالتكفير ومحاربة الابتكار.
وهو أمر يلزم عنه غرس الحس النقدي في الوعي الجمعي، وتعليم الطلاب ضرورة وضع الأشياء موضع المساءلة في كل مرحلة تعليمية، لا قيمة لها في غيبة مبادئ العقلانية والتجريب العلمي والفكري الحر، ويلزم عن الفكر الحر استبدال طبائع الحوار بطبائع الاستبداد، وإقرار حق الاختلاف بوصفه حقا مقدسا لا تقدم لأي ثقافة بدونه، وأخيرا استبدال ثقافة الكيفي بثقافة الكمي، فالتفوق الثقافي الحقيقي هو التفوق الكيفي الذي يرتبط بثقافة الإجادة والاتقان في كل مجال.
وحول رؤيته للمثقف الفاعل يقول عصفور “المثقف الفاعل ـ في تقديري ـ هو بمثابة الوعي النقدي للمجتمع، والتجسيد الخلاق لضمير الأمة ولذلك فهو يقع، دائما، على يسار النظام السياسي وما يلازمه من أشكال الوعي الاجتماعي أو الفكري أو الديني، ومهمته الأولي هي وضع هذا النظام ولوازمه، وحتى معارضيه، موضع المساءلة الجذرية، وذلك بما يجعله متطلعا إلى المستقبل الواعد، دائما، لا متسمرا إلى الماضي الذي يمكن أن يتحول إلي سلاسل تعرقل حركة الأمة إلي الأمام، ولا إلى الحاضر المتخلف الذي يمضي إلى الهاوية، فهو بشير التقدم كما وصف نعمان عاشور رفاعة الطهطاوي في المسرحية التي كتبها عنه، فالمثقف هو العقل اليقظ الذي لا يكف عن وضع الدولة والنظام السياسي الذي ينعكس على مرآة حضورها موضع المساءلة الدائم، بل لا يكف عن وضع نفسه الموضع نفسه، سواء في علاقته بالدولة أو النظام السياسي الذي يديرها سلبا أو إيجابا.
ويؤكد أن العلاقة بين المثقف الفاعل والدولة هي علاقة مواطنة ابتداء، فهو بعض الشعب الذي هو المالك الفعلي لدولاب الدولة، ومن حقه أن يعمل في أي مكان فيها، فهي دولته كما هي دولة كل مواطن، سواء وافق علي نظامها السياسي أو عارض توجهاته، كما أن النظام السياسي في الدولة المدنية القائمة على المساواة في حقوق المواطنة ليس من حقه التمييز بين من يؤيده أو من يعارضه، ما ظل الأصل في التأييد أو المعارضة هو صالح الدولة المدنية القائمة على الفصل بين السلطات حقا، والمستندة إلى دستور رشيد وقوانين عادلة وديموقراطية صدقا”.
ويلفت د. عصفور في الجزء الخاص بالتمييز الديني والاعتقادي أن الخطاب الديني السائد هو أخطر مكونات الوعي الثقافي في دولة مثل مصر، يتجاوز عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر فيها أربعين في المائة من عدد السكان، وتكاد الأمية أن تكون سمة ملازمة لما يقرب من نصف عدد السكان الذين تسيطر عليهم تقاليد ريفية متزايدة، خصوصا منذ أن رفع السادات شعار “أخلاق القرية” الذي ترتب عليه ترييف المدينة وتزييف الوعي الجمعيي نفسه، وذلك على نحو أسهم في تصاعد النزعة البطركية التي هي أولى علامات التخلف في وعي أمة تسعى إلى التقدم، ولذلك ظل الوعي الثقافي العام ينحدر منذ أيام الرئيس المؤمن، الداعي إلى أخلاق القرية وليس إلى قيم المدينة العصرية الحديثة.
ولم يتوقف انحدار هذا الوعي منذ السبعينيات إذ أخذ يفرض ملامح تخلفه المتزايد في الخطاب الديني السائد الذي ازداد سلفية ومحافظة وتخلفا في آن، ففارق الوسطية التي اعتدنا عليها في الخطاب الديني الذي عرفت به مصر، والذي ظل علامة بارزة على حضور الأزهر وفاعليته في صياغة خطاب ديني، يواكب المتغيرات الإيجابية في المجتمع، ويتأثر بها بقدر ما يؤثر فيها، لكن كان من الواضح أن السبعينيات الساداتية التي زلزلت المجتمع المصري لم تترك الخطاب الديني على ما كان عليه من وسطية وصبغة مدنية، متوارثة منذ ثورة 1919 وإنما أسهمت في تغيير ملامحه شيئا فشيئا، وأدخلت عناصر تكوينية متناقضة في صياغاته وفي توجهاته وفي تصوراته عن نفسه وعن الفاعلن له على السواء.
المصدر: ميدل ايست اونلاين