جار النبي الحلو: الروائي يعبر عن الإنسان في اللحظات التاريخية

سلوى عبد الحليم
«العجوزان» عنوان الرواية الصادرة أخيراً للروائي المصري جار النبي الحلو، عن دار «الهلال» في القاهرة؛ وفيها يرصد سيرة عجوزين صديقين يقضيان ما تبقى من حياتهما معاً؛ حيث يتقاطع الماضي مع الحاضر مع المستقبل عبر سرد سلس، وهادئ؛ يستحضر الإنساني والاجتماعي والسياسي، من دون تنظير أو مباشرة، ويكشف مشاهد من تاريخ المحلة الكبرى؛ المدينة التي ولد وعاش فيها الكاتب، ومن بينها مشاهد ثورة 25 يناير. وصدرت لجار النبي الحلو، (1947) مجموعات قصصية عدة، منها «القبيح والوردة»، «طعم القرنفل»، «طائر فضي»، «قمع الهوى»، و «العجوزان» هي العمل الروائي الخامس له بعد «حلم على نهر»، «حجرة فوق سطح»، «قمر الشتاء»، و «عطر قديم»، فضلاً عن كتب ومسلسلات تلفزيونية للأطفال، أبرزها «محاكمة في حديقة الحيوان» و «ليلة سعيدة يا جدتي»، و «الكتكوت ليس كلباً»، و «أنا ومراكب أبي».
هنا حوار معه:
> تأتي روايتك «العجوزان» بمثابة محطة جديدة في مشروع سردي شديد الخصوصية واستكمالاً لرباعية عن مدينة المحلة الكبرى، ما الجديد الذي يكشف عنه العجوزان «رفيق»، و «فايز» في تاريخ تلك المدينة؟
– استطعت عبر «رفيق» و «فايز»، أن أقدم أبطالاً مختلفين عما قدمته في الروايات الأربع السابقة، وهذان العجوزان هما لحم ودم من مدينة لها تاريخ طويل منذ أن تأسس بها مصنع الغزل والنسيج الكبير، وهما كذلك جزء من تاريخ سابق في واقع جديد ومعاً يشاهدان خيوطاً لمستقبل مختلف.
> الراوي في «العجوزان»، وكما في أعمالك السابقة؛ يركن إلى لغة بسيطة وهادئة تماماً؛ لكنها محمَّلة بقدر من الطاقة المحفزة على مواصلة القراءة… كيف تتعاطى مع قضية اللغة؟
– تأتي اللغة البسيطة الهادئة المحتشدة بالمعاني والدلالات، لتعبر عن أبطال الرواية: رفيق وفايز وياسمين والجار، وهم بالمناسبة الرواة، واللغة هي التي تعبر عن الرواية ولكل شخصية لغة.
> لكن يلاحظ أن الفصل الذي تحكيه «ياسمين» أداء اللغة فيه مختلف، هل هي الضرورة الفنية أم ماذا؟
– في «أحلام ياسمين»، تكون ياسمين صاحبة كشك السجائر هي الراوي، بمفردات تتسق مع خلفيتها الاجتماعية وبما يعطيها في الوقت نفسه الحق في أن تكون سيدة المشهد، في فصلها.
> عبر أكثر من عمل رصدت تحولات مدينة المحلة الكبرى… الكتابة الإبداعية عن عصور وأزمنة مضت هل يمكن النظر إليها بوصفها تاريخاً موازياً؟
– تلك التحولات شكَّلت وجدان أهل تلك المدينة، الواقعة شمال القاهرة، في قلب دلتا النيل. بدأت «حلم على نهر» بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تأتي الثورة، والأحلام الاشتراكية، والهزيمة والانفتاح الاقتصادي. هذه المحطات أثَّرت في المحلة كما في الوطن. المحلة وجه من وجوه الوطن المنتصر والمنكسر.
> «العجوزان»؛ تؤرخ لثورة 25 يناير في مدينة المحلة الكبرى، فإلى أي مدى يستطيع الأدب مواكبة تغير، بهذا الحجم؟
– المحلة الكبرى هي المدينة التي اندلعت فيها إرهاصات الثورة، في نيسان (إبريل) 2008، ضد نظام مبارك، وبروحها العمالية وخبرتها في الانتفاضات استطاعت أن تكون شرارة حقيقية للثورة. الأدب قادر على مواكبة التغيرات الاجتماعية ولكن ليس كرد فعل. الرواية تستوعب الحدث والكاتب يكتب في زمن متأخر عن الحدث. ولكن فصل «25 يناير – 11 فبراير» في الرواية لم يؤرخ للثورة. هو فصل عن معايشة العجوزين للجان الشعبية التي صمدت في الدفاع عن بيوت الناس وأرواحهم.
> في وجود التخييل بوصفه مكوناً رئيساً من مكونات الإبداع تظل العلاقة بين الأدب والتاريخ ملتبسة، فهل ثمة شروط يتعين على المبدع التزامها إذا كان بصدد كتابة تتعرض للتاريخ في شكل أو آخر؟
– الروائي لا يكتب التاريخ في شكل مباشر، لكن التاريخ يكون دائماً هو خلفية الصورة، أو المسرح الذي تدور عليه الأحداث أو الموسيقى التي تعبر عن زخم الموقف. الروائي ليس مؤرخاً، لكنه المعبر الحقيقي عن الإنسان في اللحظات التاريخية، وعن مدى انتصاره أو انسحاقه.
> في روايتك «حلم على نهر»، يعود بطلها «سيد»، الذي فشل في تحقيق حلمه، إلى نقطة البداية التي سعى إلى الفرار منها… الواقع الآن يقول إن البطل وعلى رغم انقضاء هذه السنوات الطويلة لا يزال يقف هناك عند نقطة البداية… ما تعليقك؟
– «سيد»، حلم أن يخرج من الأزقة، وكان يعشق سعد زغلول وطلعت حرب وسيد درويش وعبد الوهاب، ويسافر ليرى الأفلام السينمائية. كان يحلم بمدينة أجمل وإمكانيات للحياة أفضل، وبنى بيته على نهر. كاد أن يتحقق حلمه، ولكن دائماً ما تأتي الأقدام الغليظة لتدهس العشب الرقيق. وهكذا على مدار التاريخ، المدن تسقط وتنهض وتقاوم وتنتصر وتنهزم وتنهض… إلخ.
> القاهرة المدينة ذات الشهرة الواسعة، والتي شكَّلت الكثير في وجدان عدد غير قليل من المبدعين، ألم تستفزك يوماً للكتابة عنها؟
– أذهب إليها كزائر وضيف. جلست في مقاهيها مع أستاذنا نجيب محفوظ، ويحيي الطاهر عبدالله، وخليل كلفت، وما زلت ضيفاً على ما فيها من مقاهٍ أو ندوات أو فعاليات ثقافية. ولكن كيف أكتب عنها وأنا لست منها؟ عندي المحلة التي تعطيني حكاياتها وكنوزها بكل حب.
> برأيك أيهما يساهم في الترويج للآخر السينما أم الأدب؟
– منذ الصبا كنت مولعاً بالسينما، وحواديت جدتي والسينما شكَّلا وجداني وولعي بالفن، السينما ساحرة تضعك في قلب الفن بلا مقدمات، كنت أخرج هائماً في الشوراع بعد كل فيلم سواء الفيلم المصري أو الأجنبي، وأعتقد في ظروف الأمية التي نعيشها بأن السينما هي التي تروج للأدب، أظن أن الكثير من الجمهور عرف نجيب محفوظ من السينما وكذا إحسان عبدالقدوس… إلخ.
> تحتل فترة التكوين أهمية خاصة لديك، ولدى الكثير من مجايليك من الأدباء، حدثنا عنها، وكيف تراها الآن؟
– التكوين الشخصي بالنسبة إلي كان مدهشاً، واستطاع أن يغمرني ويحتويني. ولدت في بيت على نهر، وفي خلاء شاسع، وعلى ضفة النهر الأخرى تمتد الغيطان حتى الأفق، ثمة أشجار لا أعرف أسماءها، وكذا طيور، وقوارب. ذلك هو المشهد الخارجي. المشهد الداخلي في بيتنا، جنينة صغيرة، وأب عنده كتب مدهشة مثل ألف ليلة وليلة وعنترة وروايات الهلال وجورجي زيدان. وقبل دخولي المدرسة كان بائع الجرايد يأتى لنا بجريدة «الأهرام»، ومجلة «سندباد». في صباي ترك أخي «بكر» مكتبته في عنقي وسافر للجامعة. أنا الصبي فتحت المكتبة وتعرفت عليهم: موليير، بالزاك، موباسان، تشيكوف. أدهشني هذا العالم تماماً. على الجانب الآخر كانت هناك جدتي لأمي؛ القعيدة، كنت أجلس بجوارها ومعي الكُرَّاس والقلم. تحكي الحواديت، وأنا أكتب.
> في روايتك «غرفة فوق سطح» حديث عن جماعة من الكتَّاب؛ «شكَّلت روحاً واحدة»، وفق تعبيرك، من بينهم: محمد المخزنجي، ومحمد المنسي قنديل، وسعيد الكفراوي. في رأيك ما هو القاسم المشترك الأهم الذي يجمع بين هؤلاء؟
– لا شك في أن جابر عصفور، نصر أبوزيد، سعيد الكفراوي، رمضان جميل، المنسي قنديل، فريد أبو سعدة، محمد صالح وأنا، شكَّلنا مجموعة ذات روح متوثبة للمستقبل. كانت ذات أيديولوجيات مختلفة – أقصد التوجه السياسي – متمسكة بالإبداع والقراءة والحوار، بدأنا طريقاً لم ينته بعد، لأننا حتى الآن نتفق ونختلف ونحلم ونكتب، لا نكف عن حب مصر ولا الثقافة، ولا العلم.
> هل يساهم التضييق على الحريات في توهج الإبداع؛ بخاصة الرواية بما تملكه من حيل فنية؟
– في حالات القمع قد تتسرب قصائد أو رواية أو أغنية ترددها الجماهير، أو كتاب نُسخ سراً، ولكن في مناخ الحرية الفكرية وحرية التعبير يكون الإبداع أكثر عمقاً واتساعاً. الحرية تمنح الكاتب المشاركة الحقيقية في صنع الوطن، في تنوير العقل، وتقضي على التخلف.
> ما هو دور المثقف في ظل تداعيات المشهد العربي الراهن؟
– العالم كله متوتر؛ يشهد حالة من الحروب الجديدة. حروب الإرهاب وهجمات التخلف والرجعية. هنا وهناك أسلحة ومداهمات واغتيالات وانتهاك لحرية الإنسان. الإرهاب يقوم بالدور الرئيس في هذه الحروب من دون أن يرتدي الملابس الحقيقية للدول التي تدفعه. هناك حالة من التمزق والسقوط لدول كبيرة واحتلال ممن يسمون أنفسهم «داعش»، وهم في حقيقة الأمر مسخرون لضرب الشرق الأوسط والدول العربية. دور المثقف العضوي هو الدفاع عن الوطن والحفاظ عليه حتى يخرج من التجربة المريرة التي يمر بها، لكن؛ المشكلة – والتي تأتي من باب الديموقراطية – أن البعض مؤيد والبعض معارض؛ لذلك تتفتت جهود المثقفين والحركة الثقافية. فحتى الآن لم نسمع عن قصيدة واحدة يلتف حولها الناس. دور الكتابة سيأتي لاحقاً عقب انقضاء مساحة زمنية. دور الكتابة يأتي في اليوم الذي يكتب الروائيون في العراق وسورية وليبيا عن هذه الكبوة والحرب الإرهابية والظروف التي تبدو غامضة. أما الآن فنحن في انتظار القصيدة والأغنية والموسيقى واللوحة.
> كيف تقيِّم أداء المؤسسة الثقافية الرسمية في مصر؟
– يوجد ارتباك عام؛ يوجه الجهود نحو بؤرة واحدة هي: مقاومة الإرهاب بالجيوش. هذا أمر مهم للغاية لحماية الوطن ومقاومة الإرهابيين على الأرض؛ لكنه يواجه الأشخاص، لا الفكرة. الفكر يواجه بالفكر وبالتعليم وبالثقافة. الثقافة كسائر القطاعات في الدولة تعاني من الارتباك؛ لذا يجب على المثقفين الوقوف صفاً واحداً من أجل الوطن. لا بد من بناء العقول التي تواجه الإرهاب؛ فنحن لن نضع مدفعاً في كل بيت، لكن يمكن أن نضع عقلاً مستنيراً.
> الكتابة للطفل على رغم صعوبتها وأهميتها وخصوصية الأدوات والمهارات التي ينبغي توافرها في حال التعرض لها؛ إلا أنها في مجتمعاتنا العربية تأتي في مرتبة متأخرة… لماذا؟
– ينظر البعض إلى كتب الأطفال نظرة عابرة وكأنها كتابة سهلة. الكتابة للطفل من أصعب أشكال الكتابة، إذ لا يستطيع غير الموهوب أن يكتبها. نعم، كاتب الأطفال هو الطفل الذي يمتلك كل الألوان والحواديت والذكاء، هو الذي يرى العالم بعين صادقة نقية ويرى ألوانها الحقيقية، هو الذي يجري ويلهو ويتحاور مع الطفل من دون سخافة الموعظة، أو عقم الأوامر. الكتابة للطفل هي التي تراهن عليها الشعوب المتقدمة، وما يفسد هذا الموضوع أن البعض يتصور أنها كتابة سهلة فيكتب كيفما اتفق ليقبض كما يشاء. الكتابة للطفل هي بكارة الإنسانية الملوَّنة التي تبحث عن الكاتب والرسام الحقيقي.
> ما الذي تمثله الجائزة للمبدع، ولماذا لم تحصد الجوائز إلا في أدب الطفل؟
– الجائزة للمبدع هي ابتسامة رقيقة بعد جهده الكبير، كأنها تقول له أحسنت. الجائزة تحفز الشبان، وتجعل الكبير في انتظار التقدير. لم أحصد الجوائز إلا في أدب الطفل نعم، وعلى رغم ذلك لم أتقدم مرة للجائزة. كان التلفزيون المصري هو الذي يشارك في مهرجان الإذاعة والتلفزيون بمسلسلات الأطفال التي أقدمها كل عام، وفزت بجوائز عدة؛ أولها أحسن كاتب سيناريو أطفال، وفازت المسلسلات بجوائز ذهبية وفضية وشهادات تقدير، حتى لما حصلت على جائزة أحسن كاتب محترف كانت دار النشر هي التي شاركت بالكتاب الذي فاز بجائزة أحسن كاتب ورسام ودار نشر.
(السفير)