جان ميشال أوتونييل «خيميائي» يصنع من الزجاج فناً

انطوان جوكي

لا يبالغ نقّاد الفن اليوم في اعتبار جان ميشال أوتونييل (من مواليد 1964) أكثر الفنانين الفرنسيين المعاصرين ابتكاراً. فمنذ انطلاقته، تمكّن هذا المبدِع من فرض نفسه في الساحة الفنية الدولية عبر أعمال مدهشة، سواء بجمالياتها الجديدة أو بالمواد المستخدمة لإنجازها، أو بالدلالات المثيرة التي تحملها. وهذا ما يفسّر تنافُس المتاحف والمؤسسات الفنية الكبرى على تنظيم معارض ضخمة له واقتناء أعماله، وما يمنح معرضيه الحاليين في «مركز الفن المعاصر» في مدينة سيت الفرنسية وفي «مربّع سانت آن للفن المعاصر» في مدينة مونبولييه المجاورة، كل أهميّتهما. ومن خلال عنوانٍ واحد ومثير «هندسات عاشقة»، يمنحنا هذا الحدث المزدوج فرصة اكتشاف جوانب مختلفة من عمل أوتونييل عبر عشرات المنحوتات واللوحات ومئات الرسوم الإعدادية.
المسار الذي يقترحه المعرض الأول هو أشبه بهندسة راديكالية تكشف تطوّر عمل أوتونييل منذ معرضه الاستعادي في مركز «بومبيدو» في باريس عام 2011. وفي هذا السياق، تحضر في الصالة الأولى موجة ضخمة بعلو ستة أمتار وطول خمسة عشر متراً أنجزها الفنان بواسطة عشرة آلاف مكعّب من الزجاج الأسوَد.
وفي الصالات الثلاث اللاحقة، نشاهد نماذج من المنحوتات التي استخلصها من مادة السَبَج (حجر زجاجي أسوَد)، تحيط بها أعمال على قماش بعنوان «لوتس أسوَد». وفي الصالات الثلاث الأخيرة تصعقنا بأشكالها العاصفة سلسلة منحوتات من فولاذ معلّقة في الفضاء، يلطّفها في نهاية المسار عقدٌ ضخمٌ من زجاجٍ ملوّن. وفي الطابق العلوي، تصطفّ عشرات الرسوم الإعدادية التي تسمح بتتبّع سيرورة ابتكار أوتونييل منحوتاته.
أما المعرض الآخر فصُمِّم على شكل تجهيز يتألف من منحوتات تنتمي إلى مجموعة أوتونييل الخاصة. فمن «العقد- الجِرح» الذي أنجزه من زجاج مورانو الأحمر إلى «الثمار المحظورة» التي زيّن بها حديقة متحف «غوغنهايم» في نيويورك، مروراً بـ «رايات» التي عرضها في مؤسسة «كارتييه» و «هندسة عاشقة» التي استقرّت فترة في صالة «بلاد ما بين النهرين» في متحف اللوفر، تحضر هذه المنحوتات، التي تطفو فوق أرضية من مكعّبات زجاجية زرقاء، كطلاسم تسمح لنا بولوج حميمية مُبتكِرها.
وللإمساك بشعرية هذه الأعمال المثيرة للمخيلة وفهم جمالياتها الفريدة، لا بد من وضعها في سياق عمل أوتونييل ككُلٍّ. فقبل اكتشافه مادة الزجاج التي تتألف معظم هذه المنحوتات منها، عبر هذا الفنان في عمله مراحل عدّة استخدم فيها مواد مختلفة (الكبريت والفسفور والشمع…) لعبت دور المسيّر لتأملاتٍ حول الجسد ومكّنته من استكشاف الحدود بين العالم العضوي والعالم الطبيعي.
أعمال أوتونييل الأولى هي صور فوتوغرافية وُلدت تحت شعار الكلام المستحيل؛ كلام خطّ طريقه من خلال النظرة بسبب تعذُّر صوغه. ملغّزة مثل شخصية صاحبها، تشكّل هذه الصور علامات شعرية تقاوم الأشكال التي من المفترض أن تجسّدها؛ صورٌ شبحية تتخللها ترتيبات بسيطة لأشياء رمزية وتنويعات من الأضواء والظلال حول موضوع التجلّي. ومن اجل فهمها علينا العودة إلى مصدر وحي الفنان آنذاك، أي كتاب «الصور الفاشلة في مختلف الوسائل الفوتوغرافية» (1893) الذي وضعه ليوبولد ماتي حول الصور التي تلفّها ضبابيتها بهالةٍ من القوة والجمال الغامضين.
وفي صور لاحقة، ترجم أوتونييل ذلك التوتر بين حضورٍ وغيابٍ في ثنائية النموذج وظله التي تستحضر تلك المقابلة الثابتة بين الحياة والموت، ولكن ضمن نبرةٍ استعارية تلطّف مفعول المأساوي وتسمو به. ومن اختباراته الفوتوغرافية، استبقى الفنان لاحقاً التفاعل بين الشكل والضوء، وعملية تجهيز المشهد: الصفيحة الحسّاسة، المشهد أو الشيء المصوَّر، وعبور الضوء. وفي هذا السياق، أنجز تجهيزات تتوزع فيها العناصر المذكورة بطريقةٍ تكشف الفعل الفوتوغرافي بدلاً من الصورة الفوتوغرافية نفسها.
وبعد توظيف خيارٍ واسع من العناصر والمواد في ابتكاراته، ركّز أوتونييل عمله في شكلٍ راديكالي على مادة الكبريت، كما في منحوتته الأولى التي صنعها من كبريت مقولب أثناء إقامته في مؤسسة «كارتييه» الفنية عام 1988. ومع هذا العمل، انتقلت عملية إبداعه من المراجع الرسومية إلى حقل المنحوتة، علماً أنه بقي على هامش هذا الوسيط سواء بمادته غير المعهودة أو بمقاومته الثابتة نزعة خلق أشكالٍ بنفسه. وأبعد من القطعة المنجزة، لعبت قولبة الكبريت وتحويله من مادةٍ صلبة إلى مادة سائلة الدور الرئيس في انحراف ممارسته، وفتحت أمامه آفاق عملٍ جديدة.
هكذا أنجز لدى إقامته في هونغ كونغ (1989) سلسلة منحوتات بواسطة الكبريت الذائب استوحاها من صور إروسية، لكنها تبدو كجبالٍ صغيرة تتضمّن تحت قاعدتها الشكل المنحوت لعضو جسدي. ولعرضها، ابتكر واجهات بخلفية مزدوجة يسمح نظام المرايا فيها بكشف جسد العمل الفني من داخله. وفي تلك المرحلة، أخذت مسألة الكشف بُعداً إروسياً قوياً لديه، على طريقة جورج باتاي.
ولكن أكثر من باتاي أو أندريه بروتون، استحضر أوتونييل في عمله آنذاك مراجع تعود إلى روّاد السورّيالية قبل تأسيسها، مثل ريمون روسيل ولوتريامون، وسعى خلف ذلك الجمال المتشنّج والغريب الذي يشبه «لقاء المصادفة بين شمسية وماكينة خياطة على طاولة تشريح» (لوتريامون)؛ لقاء جسّده حرفياً في منحوتة جليدية أنجزها في برشلونة لمتحف «تاريخ الطب القتالوني».
ولأن طريق الحرية في الفن يتطلب مفردات شكلية ومرجعية غير مألوفة واختبار مواد جديدة، جهد أوتونييل، خلال الفترة التي تلت إقامته في نابولي (1990 ـ 1992)، في سبر سرّ تصنيع مادة السَبَج التي شاهدها في بعض الجزر الإيطالية. ولدى إقاماته المتكررة في نيويورك انطلاقاً من عام 1993، طوّر عمله على مادة الكبريت عبر وضعها في علاقة مع مواد أخرى، كما أنجز بمادة الفوسفور عدداً من الرسوم لأذرع وأياد تحمل آثار جروحٍ بليغة.
وفي أعمالٍ أخرى، استخدم الفوسفور لإنجاز رسوم مطبوعة انطلاقاً من صورة لغرفةٍ داخل مصحّ عقلي، قبل أن يخلط مادة الفوسفور مع ألوان شفّافة لبلوغ تشكيلاتٍ مجرّدة. وتحت تأثير الفنان فيليب غوستون، بدأ في طلاء منحوتاته التي تمثل أعضاء بشرية بألوانٍ مختلفة، وفي تهجينها مع أشياء من الحياة اليومية، فتحوّلت إلى رؤى غريبة ذات صبغة سوريالية، مثيرة للفضول ومنفِّرة في آنٍ واحد.
لقد وجب الانتظار حتى عام 2001، وتحديداً في معرضه في «فيلا ميديسيس» (إيطاليا)، لانطلاقة أوتونييل الفعلية في إنجاز قطعٍ فنية بمادة الزجاج، بمساعدة بعض مصنّعي هذه المادة في البندقية. وبذلك دشّن الفنان مرحلة جديدة من عمله تطلبت منه الخروج من محترفه والتخلي عن الحركة الخلّاقة وتوكيلها إلى نافخ الزجاج. وتتحلّى هذه الأعمال بألوانٍ نيّرة وجذّابة وبأشكالٍ عضوية ملتبسة تقع بين البشري والنباتي، وبجروحٍ متعمَّدة ومشوِّهة تضفي عليها هالة من الجمال الغريب الذي سعى الفنان خلفه منذ البداية.
أما المرحلة الأخيرة من عمله فتبدو كزمن المصالحة مع نفسه ومع العالم، إذ تعكس منحوتاته الزجاجية الشفّافة المعروضة حالياً أجساماً حلّ السلام فيها. ومع أن التباس الأشكال والعواطف يبقى ملموساً فيها كعلامة مكوِّنة لعالم أوتونييل، فإن جمالها المصفّى يبدو قائماً أكثر فأكثر على مفهوم التناغم الهندسي ضمن مناخٍ سحري مثير.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى