جورج بوليتزير: الفلسفة العلمية تعلم الشعب أن يؤمن بالمستقبل وبحتمية النصر

محمد الحمامصي
كتاب “المبادئ الأولية للفلسفة” لجورج بوليتزير في يوليو/تموز 1946، وأعيد نشره في يناير/كانون الثاني 1947، وفي مايو/آيار 1948، وفي ديسمبر/كانون الأول 1949. واستقبل الكتاب، لانه كان يحتوي بطريقة سهلة التناول على جوهر الدروس التي ألقاها بوليتزير في “الجامعة العمالية” في غضون 1935-1936.
وبوليتزير هو أحد هؤلاء الذين لم يفصلوا أبدا بين العمل والفكرة، فماتوا أبطالا من أجل مبادئهم. وقد ترجمه المفكر والمثقف اليساري إسماعيل المهدوي، لتصدر طبعته الأولى عام 1957 حيث كان الشعب المصري يخوض وحكومته نضالا ثوريا ضد الاستعمار. وكان الكتاب يقدم أفكارا جديدة تلعب دور السلاح النظري في معارك التحرر. وحسب الكتاب أنه يحمل اسم الفيلسوف الماركسي بوليتزير شهيد حركة المقاومة السرية ضد جيوش الاحتلال النازي في فرنسا.
يحمل الكتاب اسم جورج بوليتزير، قبل اسم هذين اللذين قاما بكتابته المفكرين جي بيس وموريس كافينج، واللذين يتابعان دروس المادية الجدلية مع غيرهما في الجامعة العمالية.
ولا شك أن كتاب “المبادئ الأساسية للفلسفة” أرقى بكثير من كتاب “المبادئ الأولية للفلسفة”، لأنه استفاد من النتائج الجديدة التي أثرى بها العلم الماركسي منذ عدة سنوات، ولكن استلهام هذه النتائج لا يختلف عما كان يستلهمه بوليتزير.
الكتاب الذي صدرت طبعته الجديدة عن دار آفاق أخيرا، جاء بتقديمة المهدوي والمفكرين جي بيس ومورييس كافيينج، وأكد المهدوي “أن الفلسفة التي تصلح سلاحا في معارك التحرر، لا يمكن أن تكون من نوع الفلسفات المشعوذة التي تثقل أذهان الباحثين عن “الحكمة”! فلا بد أن تكون إذن فلسفة علمية، تعلم الشعب معاني الكفاح والتضحية، وتجعله يؤمن بإمكانيات الواقع، ويؤمن بالمستقبل ويؤمن بحتمية النصر”.
وأوضح المهدوي أنه “إبان السيطرة الاستعمارية على مصر، وعندما كان الاستعمار يتعاون مع الطبقات الحاكمة وعلى رأسها الطبقة الاقطاعية البائدة، وقهر الشعب المصري، كان الاستعمار واعوانه ينشرون بين الجماهير بشتى الوسائل يفلسفان الأنانية والجري وراء المصالح الذاتية، والسخرية من قيم التضحية والجراءة، والاستسلام لفساد الواقع.
وفي نفس الوقت كانوا ينشرون بين الجماهير مفاهيم “الشقاء المكتوب” و”عجز الانسان امام القدر”، و”تفاهة الحياة الدنيا”، وذلك لكي يخلوا السبيل لهم إلى الاستئثار بالحياة الدنيا؟ فالفلسفة الاستعمارية الخبيثة إذن في الانصراف عن الواقع، بوصفها فلسفة الهزيمة وفقدان الثقة في القوى الشعبية والعجز عن إدراك قوانين التغير المحتوم للمجتمعات. ولكي نسحق هذه الفلسفة، يجب أن نقدم للشعب فلسفة النصر والثقة في تغيير الواقع والقدرة على تغييره”.
ورأى أن “الفلسفة هي المفهوم العام للطبيعة والانسان. وهذا المفهوم العام ليس “ترفا ثقافيا” وليس “إضافة” يسعى إليها الانسان أو يرفض السعي إليها وفق مشيئته، بل هو وظيفة حتمية في عملية وعي الانسان للعالم المادي. ومعنى ذلك أن كل إنسان لا بد أن تكون له فلسفة ما سواء أراد ذلك أو لم يرد، وسواء شعر بذلك أو لم يشعر، وسواء كانت فلسفته هذه مادية علمية تطابق الواقع، أو مثالية تضيف إلى الواقع إضافات غيبية غريبة.
فالوعي ليس سلبيا، والواقع لا ينعكس انعكاسا مباشرا ومن تلقاء نفسه في وعينا، كما ينعكس المؤثر الضوئي على لوحة التصوير، ولكن الوعي فعال يصوغ لنفسه المعاني العامة الأساسية في صراع الافكار، وصراع الأفكار يرتبط بصراع الطبقات في المجتمعات ذات الطبقات المتطاحنة”.
وأشار موريس ليجوس وهو تلميذ بوليتزير الذي جمع دروسه في مقدمته للكتاب “كان جورج بوليتزير يبدأ دروسه كل عام بتحديد المعنى الحقيقي لكلمة “المادية” والدفاع عنها ضد كل التشويهات والافتراءات التي يحاول البعض أن يلصقها بها. وفي نفس الوقت لم يقصر في أن يوضح للناس أن الفيلسوف المادي لا يعوزه المثل الأعلى، وأنه على استعداد للنضال في سبيل انتصار هذا المثل الأعلى، واستطاع منذ ذلك الحين أن يثبت بتضحيته هذه الحقيقة، فموته البطولي إعلاء لهذا الدرس الاول الذي كان يؤكد فيه وحدة النظرية والتطبيق في الماركسية”.
ولفت إلى أن الرصاص النازي أسقط بوليتزير في غابة “مون فاليريان” في شهر مايو/آيار عام 1942. ولكن “الجامعة العمالية” التي ساهم بوليتزير بقسط كبير في بنائها لا تزال مستمرة في “الجامعة الجديدة لباريس”. وهي تتسع يوما بعد يوم، والكتاب يستند فعلا إلى خبرة تعليم الفلسفة للكادحين الذين يترددون على هذه “الجامعة الجديدة” من عمال وموظفين وربات منازل وباحثين في العلوم ومدرسين وطلبة وغيرهم.
ووفقا للمفكرين جي بيس وموريس كافينج فإن كتاب “المبادئ الاساسية للفلسفة” يهدف إلى مساعدة كل الراغبين في تفهم الأفكار الرئيسية لماركس وانجلز. ولهذا يأخذ الكتاب طابع الكتب الدراسية.
ودروس “الجامعة الجديدة” التي نبع منها هذا الكتاب، موجهة إلى هؤلاء الذين يريدون أن ينيروا بالفكر النظري عملهم الكفاحي السياسي أو النقابي في فرنسا الحاضرة. ولهذا يجب ألا تدهشنا كثرة الأمثلة المستمدة من حياة الفرنسيين اليومية في نضالهم من أجل الخبز والحرية، ومن أجل الاستقلال الوطني والسلام.
وأضاف إن الماركسيين عندما يتكلمون عن التطبيق لا يقصدون به التطبيق بالمعنى الضيق – وهذا عكس الفكرة المنتشرة جدا عنه. فالتطبيق الإنساني هو مجموع النشاطات من علوم وأساليب فنية “تكنيكات” وفنون وغيرها، أي النشاطات التي تدخل في مقدور الإنسان والتي يتحدد بها الإنسان.
والتطبيق هو كل الخبرة المتجمعة خلال آلاف السنين. فلا يمكن أن يكون المرء ثوريا، إلا إذا تمكن من استيعاب خير ما في هذه الخبرة لصالح العمل القائم من أجل تغيير المجتمعات وتحسين أحوال الأفراد. وتلك هي بالذات مهمة الفلسفة “الماركسية”: فهي كمفهوم للعالم تعبر بأعم صورة عن القوانين الأساسية للطبيعة والتاريخ، وهي كمنهج تحليل تعطي كل إنسان الوسائل التي يفهم بها ما هو، وماذا يفعل، وماذا يستطيع أن يفعل في لحظة معينة لكي يغير وجوده هو.
والكتاب مخصص بأكمله للفلسفة الماركسية. ومن ثم يفيد حتما كل الكادحين من يدويين وعقليين. وبالرغم من أنه لم يكتب مستهدفا “الإخصائيين” إلا أن كل الاخصائيين من اقتصاديين ومهندسين ومؤرخين وأصحاب علوم طبيعية وفنانين وغيرهم، سوف يجدون فيه مادة للتفكير”.
وأكد جورج بوليتزير في كتابه أن التغير ليس لازما للواقع الاجتماعي شأنه شأن الطبيعة فحسب، بل إن المجتمعات تتطور أسرع بكثير من العالم الفيزيائي. فقد تتابعت أربعة أشكال من المجتمع منذ انحلال الجماعة البدائية، هي: المجتمع العبودي والمجتمع الإقطاعي والمجتمع الرأسمالي والمجتمع الاشتراكي. ورغم ذلك فقد كانوا يظنون المجتمع الإقطاعي شيئا لا يمس، وكان علماء اللاهوت يرون فيه عملا من صنع الله، تماما كما يرى اليوم الكاردينال سبيلمان أن التروستات الأميركية تطابق إرادة القادر على كل شيء.
ولكن هذا لم يمنع حلول المجتمع الرأسمالي محل المجتمع الاقطاعي، والاشتراكي محل الرأسمالي. وفي الاتحاد السوفيتي بدأ الإعداد منذ زمن للانتقال إلى مرحلة أعلى من الشيوعية. ولهذا لا يوجد “إنسان” أبدي، ما دام الانسان كائنا اجتماعيا. ألم يمت “الانسان” الاقطاعي في فجر العصور الحديثة.. قتلته السخرية المتماثلة في شخصية دون كويشوت؟
أما الأنانية التي يزعمون أنها اصيلة في النفس، فقد ظهرت مع انقسام المجتمعات إلى طبقات. و”عبادة الأنا” المعروفة التي تقول أنا فوق كل شيء، هي نتاج البروجوازية الحاكمة التي جعلت من المجتمع أجمة وحوش، قانونها: لتصل إلى غرضك مهما كلفك الثمن، بالحيلة أو بالعنف، ولتبن سعادتك على شقاء الضعفاء. ولكن في قلب المجتمع الرأسمالي نفسه، يتكون نمظ لإنسان جديد لا يتصور سعادته خارج نطاق السعادة الجماعية، بل يجد أعلى المباهج في النضال من أجل البشرية كلها، ويقدم من أجل هذه الغاية أقصى التضحيات.
وأضاف “ها هي أم تشتغل عاملة في مصانع “رينو”، تشارك بأصرار في إضراب لرفع الأجور، بينما تعلن أن من في بيتها سيجوع طوال مدة الإضراب، وها هم أيضا عمال الشحن في روين يضعون التضامن العالمي للعاملين فوق كل اعتبار، فيرفضون سبع عشرة مرة إنزال الأسلحة التي كانت مخصصة للحرب الصليبية ضد الاتحاد السوفيتي، وبهذا يفضلون أن يفقدوا لقمة العيش.
ليس هناك إذن، لا خطيئة أولى ولا إنسان أبدي. فكل هؤلاء الذين يكافحون ضد الرأسمالية يغيرون بذلك نفسه وعيهم هم. إنهم يكتسبون انسانية بقدر ما يناضلون نظاما لا إنسانيا. فالواقع الإنساني جدلي، شأنه شأن أي واقع. لقد خرج الإنسان من حيوانيته، ثم ارتقى بصراع آلاف السنين ضد الطبيعة. وهذا التاريخ الجبار لم ينته – وليس هذا فحسب بل إن كل ما حدث هو أنه قد بدأ، على حد التعبير الذي كان يؤثره بول لانجفان. ولا ينفصل ذلك التاريخ عن تاريخ المجتمعات.
وها هنا نواجه مرة أخرى، بجانب القانون الثاني “كل شيء يتحول”، القانون الاول “كل الاشياء مترابط: فلا يمكن أن نعقل وعي الفرد خارج نطاق المجتمع”. وعلى هذا يكون ممكنا ان يتقهقر الإنسان في ظروف معينة”.
(ميدل ايست اونلاين)