جوزف فالوغي.. «تقاسيم» على التباس العالم

محمد شرف
إذا ما استعرضنا التسميات التي أطلقها جوزف فالوغي على أعماله، المعلّقة لدى غاليري «إكزود»، لوجدنا أنها تدور جميعها حول الموسيقى. هذا الأمر تمكن ملاحظته في تسمية المعرض ككل، الذي اختار له الفنان عنوان: «تقاسيم». تشير الكلمة، في حدّ ذاتها، إلى ما يمكن أن ينتج من آلة موسقية من ألحان ودرجات موسيقية تطرب لها آذان المستمعين، بحسب مستويات علاقتهم بهذا الفن المتعدد المشارب والاتجاهات، ولو أن عبارة تقاسيم قد تنطبق على آلات معينة أكثر من سواها.
التسميات المذكورة، مثل «لحن»، «ميلوديا»، «سوناتا»، «هرمونيا»، «رومانس»، وغيرها، يصعب أن نجد لها تصويراً تمثيلياً في المعنى الحرفي للكلمة، إذا لم يكن مستحيلاً، لكونها تخرج تماماً عن نطاق الاستحضار البصري، ولكونها، أيضاً، تخاطب حاسة في ذاتها. هذا، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الشعور الموضعي المضاعف، الحاصل من لقاء السمعي مع البصري، المتكوّن، مثلاً، في حضرة أوركسترا مهيبة، في قاعة لا يُسمع فيها حتى همس أنفاس الحضور. انطلاقاً من المفهوم، جاءت أعمال جوزف فالوغي تجريدية بالكامل، وهذا الانحياز إلى التجريد ليس جديداً على الفنان، الذي شاهدنا له معارض سابقة كانت تصب جميعها في خانة مفاعيل هذا التيار الفني.
العالم المحسوس
غني عن القول، للعارفين في أمور التشكيل، أن العمل التجريدي لا يولي اهتماماً بالواقع الموضوعي، بل يتجنّبه ويلغي، أحيانا، كل ما يمت إليه بصلة. من خلال تخطيه للصورة والتمثيل الصوري، المرتبط برفض المحاكاة والتقيّد بالمنظور، يعمد جوزف فالوغي إلى تكوين مسطّحات ومساحات، وأشكال وألوان، يشكّل تقابلها وتداخل بعضها مع البعض الآخر، أو تجاورها، موضوع العمل الفني وغايته الأساسية. على أن فالوغي لا يسعى، من خلال ذلك، إلى اجتناب العالم المحسوس، (وهو في الحالة الحاضرة ليس صورة بل لحناً، إذ ما شئنا تسمية الأمور بحرفيتها)، بل يرمي إلى أن يستخلص من المحسوس ـ المسموع شيئاً هو بمثابة الحقيقة، أو المفهوم، أو الفكرة. هذا الحكم ينطبق، من دون شك، على الأعمال التجريدية في كل زمان ومكان، وهي التي اعتمدت تصويراً لاشكلياً بصفته الوسيلة الوحيدة، من وجهة نظر دعاة التجريد ومحبذي اللجوء إليه، إلى الراحة والتعبير، في ظل التباس صورة العالم وغموضها، بحسب ما يقول فورنغر في كتابه «تجريد واعتناق». ويبدو أن ما تحدث عنه فورنغر، في ما يختص بالالتباس الذي يلّف أموراً حياتية كثيرة، ما زال ساري المفعول، وكأن هذه العبارة، التي أطلقها المنظّر الألماني منذ ما يزيد على مئة عام بقليل، صارت من سمات العالم المعاصر الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.
وبما أن الشكل، في مدلولاته الواقعية، يغيب عن أعمال فالوغي، فقد اعتمد اللون مادة أساسية للتعبير، بعد أن كان أولى اهتماماً واضحاً لبناء اللوحة، من حيث الأساس، ولم يوّفر جهوده في اللجوء إلى كل العلاقات اللونية الممكنة، المتراوحة بين التناغم والتعاكس، والانتقال السلس من مساحة لونية إلى أخرى حيناً، أو تفضيل التناقض الحاد طوراً. لكننا، وفي مجال البناء المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخيارات اللونية لديه، كنا نود أن نرى مساحات لونية محايدة، وازنة في درجة تمثيلها، المجازي، للاستراحات المميّزة للأنغام الموسيقية في شكل عام من جهة، واستيفاء لدورها المطلوب، عملياً، في إغناء الناحية البصرية، من ناحية أخرى. إذ إن الأعمال المعروضة بصرية بامتياز، وهو أمر لم يهمله الصانع، لكن كل إضافة في هذا المجال من شأنها أن تدفع العمل الفني نحو آفاق مختلفة وجديدة.
(السفير)