خلود ياسين تفكّك صورة رموز السلطة وتعيد تركيبها جسدياً

رنا نجار
تعود الكوريغراف والراقصة والممثلة اللبنانية خلود ياسين، غداً الى «مسرح المدينة» في بيروت، بعد خمس سنوات من الانقطاع عن الخشبة ولعبة الارتجال التي تعتمد عليها في عروضها الحيّة، في عرض «أبطال» الذي يُسائل الجسد كأداة تأثير، ويبحث في صورة هذا الجسد وعلاقتها بالسلطة. أبطال خلود ليسوا بالضرورة أصحاب السلطة السياسية فحسب، بل هم نجوم أو رموز في الرياضة والموسيقى والرقص والسينما والاقتصاد. رموز يشكّلون جزءاً من ذاكرتنا أو صُورنا الجماعية (عربياً وعالمياً)، سواء كنّا نخلق سطوتهم علينا بأنفسنا ونُنصّبهم على عرش لاوعينا ومخيّلتنا، وبالتالي نتماهى بهم ونتمثّل بهم، أو سواء كانوا (الرموز) يمارسون شكلاً من أشكال السلطة علينا لتؤّثر فينا… تتساءل خلود في عرضها السايكولوجي والفلسفي في ثيماته وطرحه، هل تبني السلطة فينا صورتها؟ أم نحن، الحشود المتعطّشة للقائد، نخلق تلك الرموز ونغذيها؟ كيف يصبح جسد شخص ما رمزاً للسلطة؟ وهل يصبح سقوطه رمزاً لسقوطها؟ ما الهدف من إظهار ضعفه ووهنه حين يسقط؟ وماذا عن اضطراب المشاعر الذي نعيشه بين الصراع مع السلطة والصراع مع الذات في سبيل محاولة التمسُّك بصورة السلطة أو التخلّص منها حين تعلن انهيارها؟
اتّسمت عروض خلود ياسين المبنيةّ على البحث حول الحركة وعلاقتها بالإيقاع، بالارتجال والآنية على المسرح، حيث تترك للجسد عنانه ليتفاعل مع الموسيقى كما في عرض «بليلة من آذار» (2007) و «في هذه الأثناء» (2009). ولكنها في «أبطال» (سينوغرافيا وإضاءة فادي يني تورك) طوّرت بُنيتها لتعتمد على حبكة درامية وتيماتيكية، إنما ليست سردية أو تجري فيها الأحداث في شكل زمني متسلسل. ويبقى الارتجال هنا سرّ جسد خلود وأدائها، ولعبتها الحيّة التي «لا يمكن أن أتخلى عنها»، كما تقول لـ «الحياة». وتشرح أن «الارتجال فيه متعة اللحظة وفيه عنصر يميّز العرض الحيّ عن غيره، وفيه متعة التفاعل مع اللحظة الفرجوية المسرحية الإيقاعية، لذا أعتبره عجينة عروضي الحيّة وخميرتها. إلا أن هامش الارتجال في هذا العرض «يعتمد على علاقتي المباشرة مع الجمهور، الأخذ والردّ بيننا، لأن العرض يتناول الجسد والسلطة. وهنا أنا كراقصة وممثلة ومؤدية، أبني علاقة سلطة مع الجمهور مباشرة عبر الخشبة».
تجسد خلود بجسدها القوّي المِطواع، أجساد أبطالها مثل الرئيس العراقي صدام حسين، الزعيم النازي أدولف هتلر، نجم البوب مايكل جاكسون، المغنية بيونسيه، الملاكم محمد علي كلاي، مادونا، وغيرهم من النجوم والزعماء الذين وصلت سلطتهم وشهرتهم معاً الى بقاع الأرض وتخطّت كل حدود جغرافية وفكرية… أبطال خلود ياسين يترنّحون، يتلاشون، يتساقطون ومن ثم ينتشون، على إيقاع الصوت هذه المرّة وليس الموسيقى فقط. وقد أوكلت هذه المهمّة مجدّداً لأخيها عازف الإيقاع البارع خالد ياسين الذي رافقها في غالبية عروضها وشكّلا ثنائياً متناغماً بديعاً على الخشبة. لكن هذه المرّة، ألف ياسين النغمات الصوتية وسجّلها، لتُبثّ في خلفية العرض من دون عزف حيّ. والصوت هنا عنصر أساسي في عرض خلود الراقص الذي تحاول فيه فهم ميكانيكية الحركة وديناميتها في أجساد الرموز. فمن خلال جسدها وحده على الخشبة، تخلق خلود مسارها وتسائل الصورة في العبور بين حضور وغياب. تتلاعب بسلطتها، تخلق انتصارها وتشهد على سقوطها، «في عالم يفيض بأبطال يراقبون أجسادنا ويشعرون بوهنها وعجزها، في عالم يفيض بأقوياء يرون ضعفنا وهشاشتنا، في عالم يفيض بالصور لدرجة إفراغها من المعنى»، كما تقول خلود ياسين التي قررت مواجهة الصورة بالحضور، والحضور بالغياب. المرئي بغير المرئي. وهي المتفرجة أيضاً: تسكن الصورة، تخضع لها، وتقتلها.
كأن خلود هنا تحلّل ولادة الصورة ومضمونها ومسارها لتصل إلى موتها، وتحاول إعادة تركيب هذه الصور المتلاشية نفسها، في لعبة فرجوية جسدية بديعة، يتفكّك فيها جسد المؤدية ويعاد تركيبه قطعة قطعة، ليخدم الفكرة المطروحة ويحلّلها بأسلوب فنيّ راق.
وفي سياق تحليل الصورة تستشهد خلود بما قاله الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه «حياة الصورة وموتها»، معتبراً أن «ولادة الصورة مرتبطة أساساً بالموت، وأننا نواجه التلاشي الناتج من الموت بإعادة التركيب عبر الصورة. هكذا، بواسطة أول أشكال التعبير الفني كان البشر يواجهون غياب واختفاء أولئك الذين غابوا، بتلك النسخ التي تخلّد ذكراهم وتحفظ دوامهم».
وتفيد خلود بأن «المرئي هو تعبير عن غير المرئي»، ولكنها تتساءل: «إذا كان الموت البداية، ماذا عن الموت كغاية في عالم أصبح فيه الموت هو الظاهر وهو الصورة؟ ماذا عن الصورة حين يصبح هناك فائض من الصور؟ ماذا عن الجسد حين يصبح هناك فائض من الأجساد؟ ماذا عن غير مرئي حين يصبح مرئياً بإفراط؟»…
(الحياة)