دوام

- دوام - 2025-08-27
- شهادات عابرة للحدود - 2025-08-11
- التلاعب الثقافي - 2025-07-20
مع انتهاء موسم الإجازات والعودة إلى المدارس، تتردد بكثرة عبارات «دوام»، وتتباين ردود الأفعال بين من يستقبلها بابتسامة متفائلة، ومن يتأفف وكأنها عبء ثقيل. كلمة صغيرة تحمل في داخلها مشاعر متباينة، فالإنسان هو الذي يحمّلها المعنى؛ فمن يراها بداية جديدة يقرأ فيها وعدًا بالنمو والإنتاج والشعور بالأمان، ومن يراها قيدًا يستحضر من ورائها مسؤوليات تثقل كاهله. الدوام في جوهره قيمة إنسانية وروحية، تعكس نظرتنا للأمور وإرادتنا على الاستمرار. وقد لخّص رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام فلسفة الدوام بقوله: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل». فالقيمة ليست في ضخامة الفعل ولا في زخمه، بل في قدرته على الاستمرار وإحداث الأثر. وهذا ما يجعل العمل الصالح ممتدًا عبر الزمن، إذ لا يقاس بمقداره اللحظي، وإنما بعمقه وثباته. وللعمل الصالح صور كثيرة تبدأ من العبادات اليومية كالذكر والصلاة والصدقة، التي تبدو صغيرة لكنها إذا داومنا عليها صارت نورًا للروح وزكاة للنفس. وتمتد إلى العمل المهني حين يُؤدى بإخلاص وإتقان، فيتحول إلى عبادة تثمر نفعًا للناس وتعكس القيم الأخلاقية. هنا يبرز دور المهن الأساسية للإنسان لارتباطها بالإنسان بشكل مباشر، مثل مهنة الطبيب الذي يداوم على خدمة المرضى والتخفيف من آلامهم، والتمريض الذي يداوي جروح الناس و يتابع صحتهم، ومهن التعليم، وعلى رأسها المعلم، المثال الأوضح لفلسفة الدوام. فالمعلم لا يبني يومًا واحدًا، بل يزرع بذورًا صغيرة تتفتح عبر سنوات في عقول طلابه. دوام المعلم في الصف، وتكرار دروسه، وصبره على إعادة الشرح، كلها أعمال تبدو اعتيادية لكنها في الحقيقة أعظم صور العمل الصالح. فهو لا ينقل معلومة فحسب، بل يغرس قيَمًا، ويشكّل وجدانًا، ويزرع الأمل في أجيال قادمة. وإذا كان النجاح يحتاج إلى استمرارية، فإن أعظم مثال على ذلك هو سيرة معلمٍ داوم على عطائه حتى صار علمه صدقة جارية لا تنقطع. ولكي يثمر هذا الدوام في كل مهنة ورسالة، لابد أن يستند إلى قيم راسخة تشكّل روحه: فالإخلاص يجعل العمل متوجهًا إلى الله لا إلى المظاهر، والصبر يمدّنا بالقدرة على الثبات أمام التعب والملل، والصدق يضمن أن يكون الفعل نابعًا من أعماق القلب، والأمل يمنحنا الدافع لرؤية كل يوم جديد كفرصة لزرع خير آخر. بهذه القيم يتحول الدوام من روتين يومي إلى معنى أعمق يربط الأرض بالسماء، ويجعل من حياتنا رحلة متصلة نحو الغاية الأسمى. إن النجاح في الدنيا والقبول في الآخرة لا يتحققان بجهد عابر أو اندفاع مؤقت، وإنما بمسيرة طويلة من العمل الصالح المتواصل. المداومة وحدها هي التي تمنح لحياتنا اتساقًا ومعنى، وتحوّل خطواتنا الصغيرة إلى بناء متكامل يزداد ثباتًا مع الأيام. دعوة للجميع لنحول كلمة «دوام» إلى شعار إيجابي يذكّرنا بأن الاستمرارية في الخير، والعلم، والعطاء، هي سر السعادة في الدنيا، وطريق النجاة في الآخرة. ولنردّد مع كل صباح: «يلا دوام»… دوام على العمل الصالح، دوام على التعليم، دوام على ما يبني الإنسان ويرتقي بالمجتمع.
@maryamhamadi
** المصدر: جريدة”العرب”