ذاكرة الخطايا – محمود روبي

الجسرة – خاص
عاد مسرعًا تلك الليلة.. تملؤه الشكوك.. تُحاصره الأسئلة.. الجواب صار محالًا.. التبريرات القديمة صارت كجبل من الجليد الذائب في بحر حيرته المتأججة..
توسَّد كفيه المرتعشتين، واستوى فوق سريره المتواضع؛ الذي كان قد صنعه بنفسه، وثبَّته بإحدى زوايا الغرفة.. وهو أيضًا كخزانة، مدفون به كل ما يملك. قرر أن يتأمل غرفته الملقاة فوق بناية متهالكة، رحل عنها أصحابها.. فكم هي قبيحة.. فقيرة.. كئيبة.. بالكاد يجد بها ما يسد رمقه.
رمق سقفه المُتدلِ، المصنوع من جريد النخيل.. المرقٍّع بقطع الصاج المهترئ. غفا من شدة التعب؛ فإذا بعيون جاحظة.. تذرف دمًا.. تطرح ذات الأسئلة.. تنتظر هي الأخرى جوابًا محالًا. أفاق هلِعًا، لم يعرف كم استغرقت غفوته.. أخذ يفرك-بعنف- جفنيه المنتفخين ؛ ولكن مازالت تُسرَد خطاياه دون توقف.. تملأ أفقه الممتد بلا نهاية. أطلق تنهيدة عميقة، كأنها كانت محتبسه بين أحشائه، تترقب مخرجًا. ارتشف جرعة كبيرة من الماء، بعد أن جفًّ لعابه..
ازداد الصمت صمتًا.. لا شيء يهمس. ظل يقاوم ما تبقى من الليل، وقبل أن ينسج الفجر خيوطه؛ قام برفع غطاء سريره، والتقط كتابًا.. استدعى سكينة زائفة.. كابد ليقرأ، لكنه فشل. العبوس كان يستوطن وجهه الشاحب. مد عينيه الحمراوين نحو النافذة الوحيدة بالغرفة، التي تكاد أن تمس السقف.. لا يرى سوى فضاءً قاتمًا.. يشتم رائحة الموت من بعيد. أخذ يحدث نفسه: “ما يبقيك هنا.. تائهًا كالصعلوك الحقير.. أسيرًا لخيالاتك المرعبة.. تسكن قبرًا أبديًا.. يبغضك الأخرون.. يريدون قتلك في كل حين.. بل إنهم يتمنون إبادة جنسك اللعين..!”
انطلقت صيحات التمرد بداخله.. تبددت حيرته.. اندلعت ثورته؛ فاندفع كالطوفان نحو سريره، ليحزم أمتعته. لا يعرف أين سوف يذهب؛ ولكنه أصبح مؤمنًا بضرورة الرحيل.. الرحيل إلى نفسٍ أخرى، أو ربما إلى عالم أخر.. عالم لا يزال مجهولًا! وما كاد أن يلمسه؛ حتى أدركته طرقات الباب.. طرقات يعرفها بالعادة.. لا ينتظر غيرها..
ظل يفكر.. المواجهة قاسية.. فارقة.. وتلك مواجهة الذات، ما أشرسها! نادرًا ما يمكن حسمها. كان يدرك أنها فرصته الأخيرة لإخماد ثورته العارمة.. إنها معركة المصير..
مضى نحو الباب، ثم أدار المفتاح في القفل؛ فإذا بأجساد فارعة، ضخمة، ملثمة.. يجيئون بالعادة؛ ليطمئنوا أن الهدف قد تم إصابته. دخلوا من دون أن تهتز ألسنتهم، وما أن خلعوا الأقنعة؛ حتى برزت وجوههم الكالحة.. تسمَّرت نعالهم.. وقفوا كالتماثيل.. كانوا ينتظرون بشغف.. كانت أذانهم تعشش بين شفتيه.. تقدم كبيرهم.. قطع مسافة خطوتين نحوه، إذ كان واقفًا بجانب السرير..
-لعلك قد أصبت الهدف..
-قتلت بريئاً جديدًا..
أبقى على هدوءٍ، رغم انزعاجه:
-لا بأس، الأبرياء يدخلون الجنة
اشتدت نبرة صوته المبحوح:
-وهل نقتلهم لأجل ذلك؟!
بعدم اكتراث:
-لسنا نحن فقط من نقتلهم..
بغضب شديد:
-ولماذا يُقتلون أصلًا؟!
-إنهم وقود المعركة
-أي معركة؟!
صمت قليلًا، ثم قال:
-ينبغي تجديد إيمانك
بنبرة يائسة ساخرة:
-صدقت لتوِّك..
ضاق صدره.. قام برفع غطاء السرير مرة أخرى، وبطريقة هستيرية، أخذ يفرغه من كافة محتوياته، ويلقى بها خلف ظهره.. استدار، ليستقبل غضبهم؛ فسقط أشلاءً داخل سريره، الذي صار قبره…