ربيعة جلطي «تحلّق» فوق خراب العالم

منال عبد الاحد

من الجزائر إلى دمشق ثم باريس فالقارة السادسة العائمة بين المجرّات بما تشكله من عالم «فانتاستيكي»، تتنقّل أحداث رواية «حنين بالنعناع» للروائية والشاعرة «ربيعة جلطي».
الضاوية، الراوية والبطلة، طالبة تعيش وتيرة الحروب من مكان إلى آخر، حاملةً سرها الموجع الكامن في الجناحين اللذين ينموان شيئًا فشيئًا ليترسخا أعلى ظهرها تمامًا كما تنبأت لها منذ الطفولة – هي حفيدة «سيدي الشريف» – جدتها «حنة نوحة» التي راحت تتحسسهما في كل مرة كانت تسدل القميص فوقهما فتخبئهما جيّدًا.
تستحضر جلطي في هذا البناء السردي كل ما أتيح لها من أدوات لتبني عالمًا يجمع بين الواقع والخيال العلمي ممتطيةً السريالية. إلا أنّها تعجز مرارًا عن صهر هذه العوامل في ما بينها إذ تبدو هجينة عن القالب السردي. ففي نهاية بعض الأجزاء وعقب أحداث نمطية جدًا كانت جلطي تختار تكرارًا أن تلصق قطعًا، تستحضر الجدة حنة نوحة والطوفان المُنتظر من دون أن يكون لذلك أي ارتباط أو انسجام مع ما سبقه من محتوى ليبدو حشوًا في غير مكانه. «بينما صوت أم ابتسام يبدو حاسمًا وهي تفصل في خطتها… صوت حنة نوحة يحذر من اقتراب الطوفان.!» (ص 54).
لذا كان من المُستحسَن إنهاء هذا الفصل عند النقطة التي تحدد وجهة سفر ابتسام، وهذه الملاحظة سوف تنسحب على امتداد فصول الرواية، إذ يتمّ إلصاق جزئية الجدة والطوفان في أمكنة متعددة وكأن الروائية تعمل على حشر هذه الفكرة ولا تكتفي بترسيخها في ذهن القارئ كما فعلت في الصفحات الأولى من الرواية.
تذهب الضاوية لمتابعة تعليمها في دمشق حيث تقرّر التعرّف أكثر إلى جسدها من خلال الرقص (الباليه والفالس) لتتمكن من ترويضه وتطويعه: «أنا الضاوية لدي قناعة فلأننا ولدنا ناطقين ولم نولد متكلمين فإن اللغة للشفاه مثل الرقص للجسد وعليّ أن أتعلم لغته» (ص 25 – 26).
تنتقل الضاوية لتحدثنا عن مكوثها في منزل صديقتها ابتسام عندما استعرت نيران الحرب في دمشق، بحيث لم يُسمح للبطلة الضاوية بالبقاء في غرفتها في الحي الجامعي في مثل هذه الظروف.
تعجز الكاتبة في الجزئيتين المذكورتين أعلاه عن صهر المحتوى في قالب متجانس، إذ نشعر أننا أمام شخصيتين مختلفتين تمامًا: الضاوية، تلميذة الرقص الشغوفة، والضاوية الطالبة المقيمة في منزل صديقتها برتابة أوقاتها.
تقرر الضاوية العودة إلى وهران حيث تتعرَّف إلى أم الخير، تاجرة الشنطة لتختبر معها تجربة تمرير الحقائب. فور وصولها إلى وهران شعرت الضاوية بتغيّرات كثيرة وبأنّ أحلامها وتطلّعاتها لم تعد هي نفسها، بعدما أصبحت أسيرة جناحيها. «كل شيء تغير. حتى حلمي بالذهاب إلى نيويورك لإشباع نهمي البصري وإلى هارفارد لإشباع نهمي المعرفي تقلصا ثم تبددا»، (ص 89).
في الطائرة، متّجهة إلى باريس، تتعرَّف الضاوية إلى ابراهيم ويتبادلان الإعجاب لتنشأ بينهما بعد ذلك قصة حب خاصة عندما تعرف الضاوية أنّه من المجنّحين وأنّه أيضًا يقصد جمهرة المجنّحين التي تضمّ باحثين، علماء، فنانين، أدباء، وغير ذلك؛ وهم القادرون على الاتصال بالكوكب السادس ومعرفة تفاصيل الطوفان المرتقب.
في خضمّ الحديث عن جمهرة المجنّحين تتناول الروائية مواضيع أخرى تصنع من خلالها تيمات إضافية للإقامة الباريسية، مثل نزهة، الكاتبة ومقدمة البرامج السابقة وما تقدمه من مساعدة للنساء اللواتي يعانين قسوة الغربة والتشرد. ونلتقي ابتسام من جديد في الفصول الباريسية ونتعرّف إلى صافو وريحانة في شقة نزهة التي باتت أشبه بمنزل لهن.
وتتوقف الضاوية عند الخوف الذي يعتريها خلال وجودها في باريس، على رغم تصالحها مع جناحيها فور انضمامها إلى جمهرة المجنّحين، إذ باتت تعرف ما ينتظرها وما هي مهمتها والرسالة التي ستؤديها كمجنَّحة.
«من حذر… أعلو أكثر كي لا يراني أعداء الحرية والتحليق… من يدري، فالبنادق في كل مكان…»، ص 169.
إذًا هم المجنّحون ينفردون بمعرفة مجيء الطوفان الذي يؤدي إلى خراب دورة الأرض ويابسته وبالتالي يجدون أنفسهم أمام مهمة إنقاذ الآخرين الذين لا يعرفون ما ينتظرهم.
يتبادر إلى ذهنك نوع من التساؤل في بداية الرواية إن كان الجناحان هنا يرمزان الى التحليق أم أنهما يكبّلان حركة الضاوية ويجعلانها أسيرة جسدها المختلف في تكوينه عن الآخرين. يخيّم في البدء الحزن على مصير الفتاة التي تخبئ تحت قميصها سرها، سرًا جعلها تمارس الكثير من التحفظات في حياتها ويومياتها، ليصبح الجناحان صلة الوصل مع عالمها الحقيقي، مع حبيبها ابراهيم المجنّح مثلها، ومع المجنّحين من نخبة الأدباء والعلماء والفنانين والمبدعين في مجالات شتّى. هذا التضاد في تصوير انفعالات الضاوية تجاه جناحيها يشكّل نواة تبني عليها الروائية خطّ سير أحداث الرواية، من دمشق، من العالم العربي المحموم بالحرب، والذي تعاني فيه المرأة ما تعانيه وصولًا إلى فرنسا حيث يلاحقها المسلحون بأسلحتهم وتخلفهم وترّهاتهم. لذا فمن البديهي اعتبار رواية جلطي منبرًا يطرح هموم المرأة وحاجتها إلى من ينصت إليها وإلىلأوجاعها حيث تطرح التساؤل الأبرز: «من ينصت لمن في هذا العالم المليء بالضجيج؟» (ص139 – 140)، حين كانت «الضاوية» تستمع إلى قصة ابتسام وما حصل لها في باريس فيما يشاركهما إبراهيم ذلك عبر اتصاله بالضاوية، من خلال أجنحتهما وآلية التواصل التي تتيحها في ما بينهما ومع المجنّحين في الكوكب السادس والكواكب والأرجاء الأخرى.
وتبدو هنا عملية إشراك إبراهيم في المشهد موفقة بحيث تأتي متجانسة مع مضمون هذا الفصل من الرواية بعدما صار القارئ على بيّنة بآلية اتصال المجنّحين في ما بينهم، إذ استطاعت الكاتبة أن تبرر حضور إبراهيم وتستخدمه كعنصر بارز في تعزيز فكرة روايتها ومماهاة أجزائها المختلفة.
صافو هي المرأة صاحبة أقدم مهنة في التاريخ تحطّ رحالها في شقة نزهة متذمّرة من الإجراءات التي يتّخذها المسلحون في الشوارع، وتنبش أكثر من روحها، فتروي للضاوية كيف أعدم المسلحون حبيبها، أما نزهة فبعد ما تعرضت له من مضايقات بسبب كتاباتها وما تلقته من تهديدات باتت تقيم في نورمينديا، تكتب وتترجم.
أما المسلحون فبقوا في المدينة، وكأنّ هذه هي الرسالة التي تريد الكاتبة أن توصلها إلى قرائها: «فجأة سمع طلق رصاص في الشارع… إنها الجماعات المسلحة. إنهم يهددون الناس…» (ص 211).
وهذا ما ذهب بعضهم إلى اعتباره توقعًا لأحداث باريس الأخيرة كون الرواية قد صدرت في عام 2015.

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى