رحلتي في قارب الموت المطاطي نحو المجهول

الجسرة الثقافية الالكترونية
فجر يعقوب
خاض الكاتب الفلسطيني- السوري رحلة الهروب الى اليونان مع مواطنين سوريين، رجالاً ونساء واطفالاً عبر قوارب الموت المطاطية وعانى ما عانى مع المهربين ثم مع الشرطة التركية والشرطة اليونانية وأمضى اياماً في مخيمات اللاجئين الى ان تمكن من الوصول الى منفاه الجديد. يكتب يعقوب هنا عن هذه الرحلة الخطرة التي باتت حلم كثيرين من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين.
< ليست الرحلة في زورق الموت بمنأى عن الأوصاف الأدبية. ربما تبدو قصيدة الشاعر اليوناني كونستانتين كافافيس الأقرب الى رحلات السوريين – اليوم - بالقوارب المطاطية التي تنشد الجزر اليونانية كمحطة أولى في تيه تمثله الهجرة الأكبر في حياة أحد أكبر شعوب المنطقة ميلاً للاستقرار. كل ما قيل في قصيدة «الطريق الى ايثاكا» يمكن استجرار المجازات منه لوصف بعض هذه الرحلات المحفوفة بالألم العظيم.
الطريق الى ايثاكا الجديدة تختلف من حيث الهدف. لا يمكن تعزيزها إلا من طريق التوصيفات الأدبية، في ما تبدو رحلات السوريين في حاجة الى قراءات سياسية متعمقة بحكم هذا الكباش الكوني الذي يدور اليوم على الأرض السورية، حتى أنه تجاوز تلك الأسطورة التي حيكت من حول إله البحر بوسيدون حين يغضب على الانسان الأرضي أوديسيوس فيحكم عليه بالفناء المائي، أي ببقائه محكوماً بالماء الى الأبد. اليوم لا يبدو أن بوسيدون معني بتيه السوريين في مياه البحار على رغم أن السلطات اليونانية أطلقت في أوقات سابقة عملية بحرية ضخمة بهذا الاسم لتحد من تدفق المهاجرين عليها من تركيا: مرمريس، بودروم، ازمير، كوشتاديسي وأسماء مدن أخرى ستعلق بذاكرة السوريين الى الأبد.
المهاجر السوري، اللاجئ السوري، المواطن الأرضي السوري، الذي يفقد مواطنة لم تكن ميسرة له، يفقد أرضية الثبات التي مكنته من بلاده، ومن أقانيم سورية الثلاثة عبر التاريخ: جبل قاسيون، ونهر بردى، والغوطة، وهو اذ يفقدها مودعاً اياها للأبد، فانه لا يحلم بأكثر من استقرار وأمن وأحلام تتوافق مع اعتداله وضياء شخصيته ومكوناتها التي صنعت منه الانسان المتسامح والمرتبط بالمكان، وان ما يحدث اليوم من حوله يبدو وكأنه لا يمسه في أعماقه، لا في الداخل، ولا في ذلك الخارج المذل له ولسيرورة حياته التي جبلت ضمن هذه الأقانيم المترنحة بحكم الجور الذي عانت منه هذه البلاد في الانعطافات السياسية الخطرة التي مرت بها في تاريخها المعاصر.
رحلات السوريين في البحر لا تتشابه اطلاقاً حتى وان بدا أن هدفها واحد. كل رحلة تختلف عن الأخرى. كل لاجئ سوري «قرر» أن يدفع ثمن متاهته في البحر سيكون له قصة مختلفة عن الآخر، فـ «النقطة» التي يقوده اليها المهرب تختلف باختلاف المهرب، وارتباطاته التركية التي قد يتفرع عنها أسئلة «بوليسية» كثيرة عادة تظل بلا أجوبة. فلا يهتم من ينوي ركوب «البلم» إلا بالوصول بأسرع وقت ممكن الى أقرب جزيرة يونانية يمكنه بلوغها قبل أن تقضي على آماله دوريات خفر السواحل التركية أو اليونانية المنتشرة في المياه الاقليمية لكلا البلدين، وهي تقوم بالتنسيق بينها في أحايين كثيرة بخصوص اللاجئين، أو حين يتدخل (أبو اليتامى) فيقلب الزورق المطاطي بحمولته ويقضي على الركاب بضربة واحدة.
الوصول الى مدينة ازمير التركية سهل بالنسبة للسوريين، الذين يتوافدون الى تركيا من دون تأشيرة دخول، لكنها بالنسبة لفلسطيني – سوري تكاد تكون مستحيلة. الحصول على تأشيرة دخول كان قريباً من دعابة. ربما كان الدعابة بذاتها. يشاع اليوم أن السلطات التركية صارت تحد من تحركات السوريين على أراضيها وتطلب اذونات التنقل بين المدن والمحافظات التركية من دوائر الهجرة، ولكن هذا لم يحد من تدفق هؤلاء «البؤساء» على نقاط العبور البحرية على رغم قيام خفر السواحل التركي قبل أسابيع بإغراق زورق مطاطي سوري ما أدى الى مصرع ثلاثين مهاجراً وسط صمت مريب.
كان يتحتم عليّ في يوم قائظ أن أعبر الى ازمير من طريق مطار إسطنبول بعد حصولي على دعوة من قبل جهة مسرحية تركية. هذه المدينة البحرية ليست وجهتي أنا فقط. ولن يكون صعباً الوصول الى ساحة «بسمني». كانت ريناد ترشدني من الدائرة القطبية الشمالية في النروج بكل ما أحتاجه من عناوين وأسماء في ازمير. سبق لها أن أشرفت على سفر جدتها وجدها بالطريقة ذاتها. قالت: اذهب الى مطعم السندباد ستجد مئات السوريين هناك وتناول طعامك وستكتشف طريقك بنفسك.
لم يكن صعباً الوصول الى المطعم. بالكاد يبعد مسافة خمسين متراً من الساحة الشهيرة. غمز لي العراقي الذي سألته عن السندباد، وكأنني أشير له سلفاً الى بحثي عن المهربين، وأشار الى تجمع بشري كبير عند المطعم السوري. وصلت وأنا أجر حقيبتي. بدا لي أنني متهالك وأريد العودة الى الوراء. ليس ثمة وراء هنا. ليس أمامي إلا مواصلة الطريق. كان المطعم يعج بعشرات السوريين والعراقيين. يمكن التقاط الكثير من المفردات التي تدلل عليهم. أشحت بوجهي عن المأكولات المفرطة في سوءتها وبحثت عن مكان آخر.
قرأت على واجهة مطعم تركي (شكيمبي). هذه أكلة لذيذة كنت أتناولها في بلغاريا أثناء دراستي للاخراج السينمائي. حساء «الكروش» مع الحليب والفلفل الأحمر والخل والثوم. أكلت صحنين بنهم. اتصلت بالرقم الذي أعطتني اياه ريناد. كان أبو ابراهيم المهرب السوري. بدا لي من لهجته أنه من ادلب أو حلب. عرفت أن سعر ركوب القارب المطاطي للوصول الى «ايثاكا» المفترضة 1100 دولار أميركي. تذكرت الأسطورة الرومانية التي تقول إن على الموتى أن يعبروا نهر ستايكس بقوارب الموتى، وعليهم أن يحظوا بالعملة من أجل دفع الأجرة للمشرفين على القوارب، وحتى يسمح الكلب المتوحش سريبيروس برؤوسه الثلاثة للموتى بالوصول الى قاضي الموت. اعترضت مع أن الرجل بدا لي عبر الهاتف مصدر ثقة بعكس ما يشاع عن المهربين. صوته كان مطمئناً: – ادفع 900 دولار لي و50 دولاراً لمكتب التأمين الذي يتولى «حجز» المبلغ حتى اعلان الوصول.
فكرة التأمين كانت مقبولة من قبل اللاجئ حتى وصوله وجهته التي لا يتدخل بها عادة. يكفي الوصول الى أي جزيرة يونانية والاستسلام الأعمى لفكرة النزول عليها بغض النظر عن أهوال الطريق. هناك من يضيع طريقه لسبع أو ثماني ساعات أحياناً. ليست الجزيرة هي من تخبئ جماليات الرحلة للنهايات، بل الطريق اليها. الطريق يزيد من شيخوختك فجأة. لا يدفع الى جماليات كافافيس المنظورة في قصيدته. لا تبحث عن كافافيس هنا أيها الولد واترك ذلك لأثينا. – كانت تكتب لي في شكل دائم حين تريد التخفيف من ألم المخيلة في رحلة كانت تخيفها أكثر مما تخيفني. بدت أنها معنية من وراء البحار بالبحر الذي أمضي اليه طائعاً. كنت أكتب (بياض سهل – 101 قصيدة حب) في شكل يومي. بدا لي أن الرحلة تسبب لي حمى لن تنتهي قريباً.
قال أبو ابراهيم: ادفع اليوم وغداً يمكنك أن تستقل الزورق ليلاً. لدينا رحلة. لم أكن متهيأ نفسياً للابحار، فتذرعت بالحمى: لو ننتظر يومين أو ثلاثة حتى تتحسن صحتي، فأنا متوعك. أردف: كما تشاء ولكننا لن نبحر خلال الأيام المقبلة فالبحر هائج.
كنت قد بدأت الكتابة بالموبايل، فقد تركت الكومبيوتر في مدينة صيدا اللبنانية تحسباً للرحلة البحرية ولم يتبق بحوزتي سوى الهاتف الصغير لأكتب من خلاله وأرسل القصائد الى – صاحبة الشأن – عبر البريد الالكتروني كي تبقى في عهدتها أن حدث شيء أثناء الرحلة. قلت لها إن هذه القصائد يمكنها أن تساهم بهدم المدن التي سأعبر منها في رحلة نحو المجهول. ضحكت. كانت تعرف أنني أمازحها. لطالما رددت على مسامعي إن خيالي سيخرب عليّ كل شيء، ولكن فكرة أن أكتب عبر هذه المدن قصائد برقية صغيرة كانت قد سيطرت عليّ تماماً.
في ازمير اشتريت كاميرا «أتش دي» رقمية صغيرة. قلت سأحاول أن أصور شيئاً من هذه الرحلة. نزلت في أوتيل غونين. كان قريباً من ساحة بسمني. بقيت فيه أربعة أيام. اتصل بي المهرب أبو ابراهيم وقال: ستغادر اليوم الى بودروم وستبحر الليلة مع ثلاثين راكباً. جاء أمير. الوسيط الذي سيدلني على الباص المغادر الى هذه المدينة. وصلت في الثامنة مساء. اتصل بي مرابط آخر على جبهات التهريب عرفت أن اسمه مراد ودلني على الأوتيل الذي سأبقى فيه بضع ساعات ريثما يتم نقلي الى «النقطة». وسألني عن سترة الانقاذ. قلت اشتريت واحدة بستين ليرة تركية. انتظرت حتى الثانية ليلاً.
جاء صوت مراد ثانية ليقول لي ليس هناك إبحار الليلة وأنه يمكنني أن أنام. لم أحتج. نمت. استيقظت صباحاً. بحثت عن فطور وبقيت على هذه الحالة ثلاثة أيام اتصلت خلالها بأبي ابراهيم مرات عدة، وكان يتذرع بقوله إنهم لم يتمكنوا من شراء «النقطة» من الجندرمة التركية. جاء من ينقلني الى أوتيل في مدينة كوشتاديسي. هناك التقيت برفاقي المسافرين على متن القارب. كانوا سوريين وعراقيين وأكراداً. نمنا ثمانية أشخاص في غرفة واحدة. من الواضح أن أصحاب الأوتيل لديهم علاقة ما بتهريب البشر في قوارب الموت، فلم يكن هناك نزلاء سوانا. بقينا ثلاثة أيام تعرفت خلالها على الشاب السوري المسيحي شادي ابن مشتى الحلو الذي يرافق أخاه جورج (القاصر). سأكتشف لاحقاً أن جورج هو مهدي وهو مسلم من حلب ولا تربطه به صلة قربى، وأن شادي يقول ذلك ليحميه لاحقاً من السلطات اليونانية التي ستؤخر ترحيله لأنه قاصر.
تعرفت الى أبو يعرب الذي سيقود «البلم». كان شاباً سورياً فتياً، مرحاً، شجاعاً، وهو من سيقود بنا زورقاً مطاطياً لم يسبق له أن ركب فيه. صار المهربون يلجأون الى مسافر معدم لا يملك المبلغ المطلوب ليقود الزورق بدلاً من مهرب قد يسقط في أيدي السلطات اليونانية ويُسجن خمس عشرة سنة. عند الوصول سيتخلص السائق العابر من «البلم»، ولن يشي به أحد.
اعترف أبو يعرب لاحقاً بأنه دخن حشيشة الكيـــف حتى يعبر بنـــا البحـــر الى الجـــزيرة الموعودة. لم تكن كذلك على أية حال، فقد وقعنا في جزيرة ساموس العسكرية اليونانية وهي جزيرة سيئة السمعة عند اللاجئين.
* حملنا حقائبنا الصغيرة وسترات الانقاذ وانطلقنا
دقت ساعة الصفر في اليوم الثالث. جاء من يقلنا في أوتوبيس الى «النقطة» الموعودة. حملنا حقائبنا الصغيرة – بعد أن طلب الينا أن نخفف حمولاتنا الى الحد الأقصى- وسترات الانقاذ وانطلقنا. لم يستغرق الطريق أكثر من ربع ساعة. نزلنا عند نادٍ لليخوت. قطعنا جسراً خشبياً. وسقطنا في البلم واحداً تلو الآخر، ومن يتلكأ كان المهربون يتولون عملية دفعه من دون تردد. سقطنا 38 شخصاً و6 أطفال في قارب مطاطي لزج واستحال كل شيء من حولي الى بحر من زلال البيض. لم أشعر بكره نحو شيء كما شعرت في هذه اللحظات نحو هذا القارب المطاطي. كان لزجاً وكريهاً ولا يمكن الركون اليه. محاولاتي للتصوير ذهبت سدى. كان ضغط المسافرين يفوق التوقعات. كتل من اللحم مرمية فوق بعضها. هناك من يصرخ ويقرأ الأدعية. وهناك من يقهقه من الخوف. للمرة الأولى في حياتي أرى البحر من داخله. بدأت الشمس تشرق. لم نعد نرى شيئاً من حولنا سوى الماء. كان جهاز الـ «جي بي اس» هو من يوجه الرحلة. بعد ساعة ونصف ظهرت في الأفق ملامح يابسة من بعيد. صرخ البعض بأنه يرى الجزيرة. بدأ أبو يعرب يزيد قليلاً من سرعة الزورق ويطلب من الجميع الركون في أماكنهم حتى لا ينقلب بنا. ظهرت طائرة هليوكوبتر يونانية فوقنا مباشرة. بقيت تحلق أكثر من عشرين دقيقة من دون أن نعرف هدفها من التحليق. صاح البعض بأن علينا أن نثقب الزورق قبل وصول خفر السواحل اليوناني الينا. لم تكن فكرة سديدة فقد كانت الجزيرة لا تزال بعيدة. بدأ الزورق على أية حال يدخل الماء المالح من جنبيه فصاح أبو يعرب على القابعين في مقدمته بأن يزيدوا من ثقلهم حتى يستوي مع الماء. تحسن الوضع قليلاً. مر زورق يوناني كبير بالقرب. دار من حولنا. توجسنا شراً في بادئ الأمر. كان على متنه امرأة ورجلان. أشاروا علينا أن نكمل طريقنا باتجاه الجزيرة. لحظة الوصول سقط هاتفي النقال في الماء وتعطل. تعطلت الحياة كلها فجأة.
في جزيرة ساموس كنا على موعد مع معسكر شبيه بمعسكرات الاعتقال مدة عشرة أيام. كان الوضع مزرياً للغاية. صادروا كل شيء بحوزتنا. راحت علي الكاميرا الرقمية الصغيرة، ولم يكن ممكناً عمل شيء سوى انتظار «الخارتيا». الورقة التي ستسمح بمغادرة الجزيرة الى أثينا.
لم تكن جزيرة ساموس هي ايثاكا المتخيلة في كل الأحوال. ليس الطريق اليها هو الأجمل. كان الغرق في الشيخوخة في سبيل الوصول اليها هو من يعجل بالخروج منها بأسرع وقت ممكن مع نسيان كل ما يمت اليها بصلة.
في أثينا التقيت بمهربين من كل نوع: فلسطيني وسوري ونيجيري ومصري. جربت مرتين السفر عبر مطار أثينا بجواز سفر من بلد أوروبي شرقي سابق. وفي المرتين ألقي القبض عليّ. وكانوا «يعيدونني الى البيت» وأنا أصر على هويتي السورية، وأترنم بقصيدة محمود درويش: «مطار أثينا يوزعنا على المطارات».في المرة الثالثة كان يتوجب عليّ أن أشبه الممثل الألماني كلاوس كينسكي وأحمل جواز سفر دولة أوروبية غربية باسم هانز ل. بعد أن دفعت في «مكتب التأمين» مبلغ 4300 يورو يتسلمها المهرب المصري الأسمر لحظة وصولي الى محطتي النهائية. كان شبيهي وغريمي الذي سيغير ملامحي لفترة طويلة، وكان يجب أن أعبر الحواجز الأمنية اليونانية في المطار بثقة أكبر، وأدخل الطائرة الدنماركية المتجهة الى استوكهولم، وأغرق في اغماضتين ونصف أمام المضيفتين الشقراوتين، وأنا أرسل عبر فجر البياض السهل المتقن بهاتفي النقال الجديد رسالة قصيرة: أنا أطير أطير… أحبك.
المصدر: الحياة