رحل عادل فاخوري الفيلسوف … وشاعر القصيدة الإلكترونية

شوقي بزيع

كان عادل فاخوري في مرحلة الثمانينات من القرن العشرين واحداً من نجوم بيروت، بيروت الثقافة، بيروت شارع الحمراء، بيروت ما قبل الثورة الفلسطينية وما بعدها… ونجوميته صنعتها شخصيته الفريدة والمبادرات التي كان يقوم بها أو يطلقها، هو الفيلسوف المتعمق في علم المنطق والرياضيات والسيميولوجيا والكومبيوتر أو «المعلوماتية»، وحامل شهادتي دكتوراه واحدة من ألمانيا (أرلنغن نورنبرغ) وأخرى من فرنسا (السوربون) والمتقن لغات شتى كالألمانية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية واللاتينية واليونانية القديمة… وعطفاً على رصانته الأكاديمية التي حملته على تأليف كتب مرجعية وعلمية، كان عادل شخصاً دمثاً، مرحاً، يدمن الجلوس في مقاهي الحمراء ومنها مقهى الاكسبرس الشهير الذي كان يؤمه «جمهور» من كتاب وشعراء وفنانين وصحافيين، لبنانيين وعرب. وكان في جلساته التي يذكرها الأصدقاء جيداً خير متفوه ومتحدث في أمور شتى، في الفلسفة والسياسة والأدب والشعر ولا سيما الشعر الإلكتروني الذي كان سباقاً في إرسائه لبنانياً معأنه لم يحترف الشعر ولم يصبح شاعراً «رسمياً» يوماً. وكان عندما تأخذه التعتعة هو المعروف أيضاً بها، لا سيما بعد أن يفرغ في جوفه ما لا يحصى من كؤوس، يتسحيل شخصاً فكهاً، لطيفاً حيناً ومشاكساً حيناً حتى العدائية. لكنه لم يكن يفقد وعيه تماماً، عيناه تبرقان وبعض ما كان يقوله أشبه باللقى الفكرية أو الشعرية.
رحل عادل فاخوري عن ثمانية وسبعين عاماً. لم يعلم أحد إن كان أصيب بمرض أو حل به عارض، فهو كان اختفى في السنوات الأخيرة وما عاد يفاجئ أصدقاءه بإطلالاته المتقطعة، وأصلاً لم يبق مقهى ولو واحد من مقاهيه الأثيرة في الحمراء، فهي أغلقت كلها مع ما طرأ على شارع الحمراء من هجانة وإلغاء ذاكرة. مات في صور مدينته الجنوبية، وظل نبأ رحيله غير مؤكد الى أن شاع بين الأصدقاء.
كان عادل فاخوري وجهاً من وجوه بيروت المضيئة، في ابتداعاته أو «اختراعاته» وسجالاته الرصينة التي كان يخوضها، وفي كتبه القيّمة التي يقبل عليها طلاب الجامعات وأهل الاختصاص ومنها على سبيل المثل: المنطق الرياضي، الرسالة الرمزية في أصول الفقه، تيارات في السيمياء، علم الدلالة عند العرب: دراسة مقارنة بالسيمياء الحديثة، محاضرات في فلسفة اللغة… أما كتابه الأشد طرافة فهو: «أفكر: إذن أنا كومبيوتر» ولعله آخر كتاب له منشور، فهو في العقد الأخير قبل رحيله انصرف كل الانصراف الى المعلوماتية المفتوحة على المنطق والفلسفة واللغة، وراح يبتدع فيها طرائق وأساليب ومناهج غير مألوفة. وقبل بضعة أعوام، زارنا في «الحياة» عارضاً نشر صفحات من أحد مشاريعه المعلوماتية وكان على ثقة من أن القراء سيتقبلون هذه الصفحات ويقبلون على قراءتها لغوياً وبصرياً. وبعد ساعتين من الشرح المسهب لم أستوعب شيئاً من هذا المشروع، فهز رأسه ومازحني وحمل مشروعه وخرج. كان فاخوري رجلاً طليعياً حقاً يعيش في المستقبل مثلما يعيش في الحاضر والخيال في آن واحد.
في منتصف الثمانينات أطلق عادل فاخوري ما سمّاه الشعر الإلكتروني. حينذاك فتح له الشاعر شوقي أبي شقرا صفحات الملحق في «النهار» الذي كانت تضمه الجريدة. وراح ينشر قصائده الإلكترونية المصممة تصميماً طوبوغرافياً والحاوية الكثير من الأسهم أو الفلاشات والأزياح والإشارات الطباعية، وبدت الناحية البصرية فيها طاغية على الكلمات. وأحدثت هذه القصائد سجالاً في بيروت وفي المعترك الشعري والنقدي ولم يكن الشعر الحديث قد عرف ما يوازيها بصرياً وهندسياً، على خلاف الشعر الغربي الذي عرف تجارب كثيرة في هذا الحقل. وكان أصلاً الشاعر الفرنسي غيوم ابولينير من رواد هذا الشعر البصري لا سيما في ديوانه «كالليغرام». وأذكر أننا سألنا فاخوري مراراً لماذا لا ينشر هذه القصائد في ديوان يكون فريداً في هذا النوع الشعري عربياً، ولم يكن لديه من جواب، فهو كان ذا شواغل كثيرة ومشاريع ظل معظمها غير مكتمل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى