رفيع بيتز لا يريد سوى تحقيق أفلام

ندى الأزهري
جنود «الغرين كارد» موضوع «سوي نيرو» الفيلم الأخير لرفيع بيتز… هي قضية الهوية والانتماء تلاحق من جديد هذا المخرج الإيراني البريطاني المقيم في فرنسا، إنما هذا المرة في المكسيك!
رفيع بيتز ولد في طهران عام 1967 من أم إيرانية تعمل في السينما مصممة أزياء وديكور وأب بريطاني. غادر إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية ودرس السينما في لندن ليتخرج في 1991. عمل في باريس مع جاك دوايّون وجان لوك غودار وحقق فيلماً وثائقياً «الفصل الخامس» 1997. ثم أنجز أربعة أفلام روائية في إيران منها «إنه الشتاء» 2006، الذي شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين وسياتل. فيلمه الأخير «سوي نيرو» عرض في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين ويعرض حالياً في الصالات الفرنسية وقد استقبلته الصحافة والجمهور باهتمام وحرارة.
التقيت رفيع بيتز في مقهى باريسي للحديث عن فيلمه هذا، لكن السياسة لم تدع المجال لحديث سينمائي خالص!
> قرأتٌ أن فكرة «سوي نيرو» جاءتك بسبب قرار من المحاكم الإيرانية يمنع دخولك إيران! لمَ هذا القرار؟ أبسبب رسالتك التي وجهتها للرئيس أحمدي نجاد بعد توقيف جعفر بناهي؟
– لا، لا، ليس قراراً. في إيران لا تجري الأمور على هذا النحو! ليس ثمة قانون يمنع السينمائيين من التعبير، هذا فقط أمر متعارف عليه. لكن المشكلة أتت من فيلمي «الصياد» الذي ترافق خروجه مع أحداث انتخابات 2009. كان الأمر مجرد مصادفة إذ صوّر الفيلم قبلها (هو عن حارس ليلي يخرج من السجن ليكتشف اختفاء زوجته وابنته في أحداث جرت في المدينة، يغدو صياداً متخفياً في الغابة حاملاً كراهيته وعدائيته لعدو غير مرئي…). بعد هذا مباشرة، سُجن جعفر بناهي ورسولوف ودافعت عنهما في رسالة مفتوحة موجهة لأحمدي نجاد. طرحت فيها أسئلة، مجرد أسئلة، عن الثورة الإيرانية وقد فصل ثلاثون عاماً بين بدايتها وبين سجن السينمائيين. تساءلت لمَ كانت هناك ثورة إذاً؟؟ بسبب كل ذلك ظنّ الناس أن ثمة قراراً ضدي في إيران وهو ما لم يحدث. على كل، أنا من الأشخاص الذين لا تتغير مبادئهم ما بين الخارج والداخل الإيراني.
فيلمي الفاشل!
> لكن، ألم تحاول الذهاب لهناك؟
– الكل ينصحني بعدم الذهاب! في الواقع لا أفكر بفعل ذلك. إنما إن أردت يوماً العودة لبلدي فلديّ كل الحق، وإذا لم يوافقوا فسيكونون هم خارج القانون (مبتسماً)! إيران بلد معقد ولا تجب ممارسة السياسة من الخارج. أما عن فيلمي «الصياد»، فأي فيلم سيغدو سياسياً فقط في اللحظة التي يعرض فيها بإيران. اعتبره فاشلاً لأنه لم يعرض هناك مع أنني صورته فيها وحصلت على كل التصاريح اللازمة ولم أعدّل فيه شيئاً لكن مصادفته مع الأحداث أثّرت عليه. لو كان موسوي هو الرئيس الفائز لما منع الفيلم.
> لكن الآن مع تغير النظام، أقصد..
– (مقاطعاً) لم يتغير شيء. هذه مزحة! طالما موسوي في الإقامة الجبرية ومحاط بحراس الثورة وجدران من الإسمنت المسلح فلا تغيير. تدهشني في إيران الذاكرة القصيرة للناس… لم أضع اسمي أبداً في أي فعل مناصر لموسوي، فأنا أعتبر أن اتخاذ المواقف في الأحزاب السياسية ليس من مهمة السينمائي، عملي ينحصر بالإشارة إلى مشكلة مهمة في المجتمع، لا تقديم الحلول لها، وإلا لكنت سياسياً. أنا أمسك المرآة لأريهم أن ثمة أشياء ليست على ما يرام. لم أتخذ في حياتي موقفاً سياسياً خصوصاً في إيران، فهذا البلد معقد جداً حيث أن سبعين في المئة من الشعب عمره أقل من ثلاثين سنة، أي أن هؤلاء لم يعرفوا أبداً الثورة وبالتالي لا يمكنهم أن يتمثلوا بها مع أنهم محكومون بها! ثمة تعقيدات كثيرة في المجتمع الإيراني وثمة هوة بين الحاكمين والشعب، لكن من الصعب الانحياز لجهة، فالحاكمون هم الذين قاتلوا في الحرب ومنهم سقط حوالى المليون شهيد، وهؤلاء مشاكلهم مغايرة للشباب الحالي الذي يرغب بالتوجه نحو المستقبل فيما هم يعودون باستمرار نحو الماضي.
> ما الفيلم السياسي من وجهة نظرك؟ صرحتَ بأن «طعم الكرز» لكيارستمي هو فيلم سياسي بامتياز وأنه من بين كل السينمائيين الإيرانيين فإن كيارستمي هو الأكثر تسيساً في أفلامه. هذا مع معرفتنا بحرص الراحل على الابتعاد عن اتخاذ المواقف السياسية.
– كيارستمي كان يفعل ما يحرك الأمور في إيران. فيلمه هذا عن رجل يريد الانتحار، إنه أول من تطرق لهذه الفكرة ومنذ ذلك بدأ سينمائيون آخرون يثيرونها. بمعنى أنه أنجز فيلماً كان له تأثير حقيقيّ على السينما الإيرانية وعلى تغيير العقليات حول السينما. ما هي السياسة؟ هي كل ما يطور العقليات، ما يغير الأمور في البلد المعني. الوحيد الذي نجح في ذلك هو كيارستمي، لقد طور السينما الإيرانية من الداخل. هو سفيرها على رغم أنه لم يحك بحياته عن السياسة خارج إيران أما في داخلها فحكى كثيراً ولهذا أحترمه.
> هذا يقودنا للحديث عن جعفر بناهي!
– لا تعليق، لا شيء لدي ضده. هو حكى في الخارج عن إيران وكيارستمي عتب عليه. لا يمكن أن أقارن بين الاثنين، كل يفعل بحسب قدراته. من الأنسب تغيير الأشياء من الداخل، وهذا ينطبق على كل البلدان فلا يمكن تغييرها من الخارج.
بين أميركا والمكسيك
> أخذتنا السياسة السينمائية إن جاز التعبير، لنتحدث عن فيلمك الأخير الذي صورته بين المكسيك والولايات المتحدة. أعرف أنك تكتب السيناريو من سنوات، كيف تمت مراحل الكتابة وهل عدلته أثناء التصوير؟
– كان السيناريو قصة كتبتها من خمسة أعوام ثم حولتها لسيناريو مع الروماني رزوان رادوليسكو. تنقّلت بين المكسيك والولايات المتحدة للقاء شباب من أميركا اللاتينية ينخرطون بالجيش الأميركي للحصول على المواطنة الأميركية وهم يُعرفون بجنود الـ»غرين كارد». بعد 11 أيلول صدر قانون يسمح للمهاجرين غير الشرعيين بالدخول في الجيش ليتجنبوا الطرد من الولايات المتحدة. كثير من هؤلاء قاتل في العراق وأفغانستان، وعلى رغم خدمتهم 3 سنوات في الجيش فإن أي جنحة ولو بسيطة تكفي لسحب البطاقة منهم. إنه موضوع محرم في الولايات المتحدة ولهذا عدلت السيناريو الأساسي بناء على المعلومات الجديدة التي اكتشفتها. السيناريو ليس كالرخام وإلا فلا حاجة لتصويره يمكن أن ننشره ونترك تخيله للقارئ. السيناريو لدي في حركة دائمة.
> من المفترض أن أحداث جزء من الفيلم جرت في الشرق الأوسط، لم تعين اسم المنطقة؟ أين جرى التصوير؟
– في المكسيك! ذهبت مع جندي شارك بالحرب في أفغانستان والعراق لمعاينة المواقع وإيجاد ما يشابه تلك المناطق. لم أرد أن أعطي اسم أو هوية للمكان، فثمة بلاد كثيرة تقوم بما يشابه ذلك، أي تستخدم جنوداً من جنسيات أخرى في أماكن الحروب. هناك أفغان مثلاً في الجيش الإيراني.
> لماذا إذاً اخترت الولايات المتحدة الأميركية وجيشها؟
– لرغبتي بالحديث عن بلد المهاجرين وهو بامتياز الولايات المتحدة. إنه البلد الذي لا جنسية له. في الشرق لم أرد إعطاء هوية للمكان لأن التعاسة هناك هي الوجود الأميركي الذي سيبقى دائماً فلماذا إعطاء هوية في قصة لا زمان لها؟!
> هل ثمة اختلاف في التصوير في بلد كإيران، حيث صورت أربعة أفلام، وبين التصوير في الولايات المتحدة الأميركية؟ وكيف تمّ تعاونك مع الجيش الأميركي؟
– إنها لفكرة رومانسية الحديث عن اختلاف في شروط التصوير بين البلدين أو بين إيران والغرب. يعاني السينمائيون من حيث أتوا والسينمائي لا حدود له، لننظر إلى أورسون ويلز كم عانى مع الرقابة الأميركية. لا نتمتع بالحرية لعمل الأفلام التي نريدها. في إيران مشكلة الأيديولوجيا وفي الغرب مشكلة التمويل. في إيران اللعب مع الرقابة مثل القطة والفأرة إنها لعبة مباشرة أما في الأمور الاقتصادية فهناك العديد من الأشخاص ولكل منهم وجهة نظره الخاصة! من المؤكد أن الرقابة في إيران علمتني الكثير… أستطيع القول إن شروط الفيلم قبل وأثناء إنجازه، هي واحدة، أما الفروق فتأتي بعد الانتهاء منه. لقد طلبت معونة من الجيش الأميركي فأعطوني لائحة من الشروط تشابه ما يطلبه الجيش الإيراني وطالبوا بتغييرات كثيرة لإبراز أمجاد الجيش الأميركي. وفي إيران يريدون أفلاماً لتمجيد الدولة الإيرانية، وأنا لست هنا لأرضي أي أحد!
> هل ثمة ما فاجأك بالتعامل مع الجيش؟
– نعم كنت أظنهم أكثر انفتاحاً في ما يتعلق بجنود الغرين كارد.
السينما في بلاد الملالي
> والسينما الإيرانية اليوم؟
– لا يزال نظام تصنيف الأفلام سائداً. فئة «ألف» التي تنال دعم الدولة وتُفتح لها كل دور العرض أبوابها وهي أفلام الحرب (الدفاع المقدس في إيران). فيما أفلام فئة «باء» التي تنتمي لتجربة وفن، فيمكنها نيل الدعم فقط إن حملت رسالة ما، أما عدد الصالات التي تعرضها فقليل. ثمة أفلام فئة «جيم» لا تحظى بأي دعم إطلاقاً وهي التي تنتمي لها كل أفلامي! التناقض هو أن هذه التصنيفات وضعت في زمن خاتمي الإصلاحي، لهذا بات تمويل الموجة الجديدة الإيرانية صعباً وجاء الإنتاج المشترك كحل… ولكل هذا تعاني سينمانا. الوضع اليوم شائك فالغرب يريدني أن أنتقد إيران وتلك تريد أن أعمل دعاية لها أما أنا فأريد فقط صنع فيلم!
> تتكلم عن إيران كما لو كان انتماؤك كاملاً لها… أنت من تؤرقه مشكلة الانتماء والهوية المتواجدة في كل أفلامك. ماذا تعتبر نفسك وهم هنا في فرنسا يقولون عنك «المخرج الإيراني»؟
– أشعر بالفخر لهذا. لقد كبرت مع السينما الإيرانية وعرفت كيارستمي قبل شهرته. كنت على الدوام مأخوذاً بما تعنيه الهوية في السينما وأتفهم الحاجة لهذا الانتماء العاطفي. بيد أن الفن لا حدود له وهو يتجاوز الثقافة واللغة. لاحظت أنه بعد عرض الأفلام يطرح المشاهدون دائماً ومهما كانت جنسيتهم نفس الأسئلة، ما يبرهن على تجاوز الفن لقضية الجنسية. حين أفكر بكيارستمي مثلاً فهذا يعني الشخص نفسه وسينماه. على أية حال لست من يحدد انتمائي بل الآخرون يقررون ذلك. كوني إيرانياً يعتبر أكثر جذباً (إكزوتيكية) في فرنسا، فأمي إيرانية وأبي بريطاني وزوج أمي الحالي فرنسي وكل واحد منهم يضعني في خانة مع أنني أنتمي للأماكن الثلاثة! لكن، لمَ علينا أن نختار مكاناً واحداً فقط؟! إن وضع مجموعة في سلة واحدة هو تبسيط للهوية. لهذا ربما صورت «سوي نيرو» في المكسيك!
> هل تعتبر فيلمك الأخير سياسياً عن المهاجرين وأصحاب الهويات الضائعة؟
– ليس فيلماً عن المهاجرين لكن عن هؤلاء الذين يرغبون بالانتماء لبلد بيد أنهم يرمون خارجاً وسيقضون حياتهم في No Man’s Land مثلي تماماً.
(الحياة)