رمال الصحراء أحنّ على الآثار المصرية من خروجها إلى النور

حسين عبد البصير
على رغم أن آثار مصر قد أثرت فيها سرقات وفياضانات وكوارث طبيعية وحروب وإرهاب عبر التاريخ وعرّضتها للدمار والتلف والسرقة، فإن أهم مشكلة تواجها حالياً هي النقص الحاد في إيرادات وزارة الآثار التي تعاني من تراجع كارثي في إيرادات المتاحف والمناطق الأثرية إلى أقل من الخمس، منذ أكثر من خمس سنوات منذ «ثورة يناير». فبعد أن كان دخلها نحو بليون وربع بليون جنيه مصري كل عام، وكانت تعد مصدراً مهماً للدخل القومي بعد قناة السويس، وبعد أن كانت تملك وديعتين تبلغ كل واحدة منهما بليون جنيه مصري، صار نحو ربع بليون جنيه مصري أو أقل! وتراكمت الديون على الوزارة من بين مستحقات مقاولي مشاريعها السابقة وأجور العاملين فيها. وانخفض دخل الآثار إلى عشرين مليون جنيه مصري أو أقل في الشهر. وتستدين حالياً وزارة الآثار ما يقرب من خمسين مليون جنيه شهرياً من وزارة المال كي تدبر أجور موظفيها!
فعلى سبيل المثال، عقب أحداث الثورة عندما حدث تدمير متحف الفن الإسلامي في القاهرة نتيجة للحدث الإرهابي الذي تعرضت له مديرية أمن القاهرة في كانون الثاني (يناير) 2014، وقفت وزارة الآثار عاجزة عن تدبير أموال الترميم المعماري والدقيق للمبنى وآثاره لولا منحة تبلغ نحو خمسين مليون جنيه مصري من دولة الإمارات، فضلاً عن حملة تبرعات قامت بها منظمة «يونيسكو» لمصلحة مصر وجلبت مليون دولار أميركي، علاوة على الدعم الفني الذي قدمه مركز البحوث الأميركي في مصر. وأدى هذا العجز التمويلي الكارثي إلى التوقف التام وتجمد دولاب العمل الأثري في مصر. فلم تعد توجد هناك أعمال حفر ولا اكتشافات أثرية مصرية إلا قليلاً، ولا مؤتمرات أو ندوات دولية متخصصة، وتراجعت أعمال الترميم إلى أضيق الحدود.
وتعد آثار مصر الكثيرة قليلة العدد مقارنة بما في باطن الأرض منها، وذلك لأن رمال الصحراء أحن عليها من خروجها إلى النور حالياً في ظل العجز الحاد عن ترميمها وعرضها في المتاحف أو حفظها في المخازن.
ويُركّز حالياً على المشروعات الضرورية مثل مشروع تطوير هضبة أهرام الجيزة أو ذات التمويل أو الإقراض الأجنبي مثل مشروع المتحف المصري الكبير. وصارت المشاريع تأخذ وقتاً في التنفيذ ولم يعد يعلم وقت محدد للافتتاح كما كان من قبل.
وعندما تؤكد الدراسات البيئية أن هناك تآكلاً للآثار نتيجة تلوث الهواء، فإنه ليست هناك إيرادات لحماية هذه الآثار من دخل الوزارة التي تلجأ إلى جهات أجنبية ذات خبرة وتمويل للقيام بالترميم. وهذا يأخذ وقتاً طويلاً وقد يعرض الآثار التي تحتاج تدخلاً سريعاً لإنقاذها، للخطر، وأزمة لحية قناع الملك توت عنخ آمون خير مثال على ذلك.
وتم التعدي على أراضي الآثار والبناء عليها وسرقة عدد من المخازن والمواقع الأثرية والمتحف المصري مساء الجمعة 28 كانون الثاني (يناير) 2011 نتيجة الانفلات الأمني الذي حدث عقب الثورة. ونشط الحفر خلسة في الأراضي الأثرية المترامية الأطراف والتي تحـتـاج إلى حراسـة كثيرة ومشددة، وتم سرقة الآثار وتهريبها وبيعها خارج البلاد.
ويبلغ عدد العاملين في وزارة الآثار حوالى خمسين ألف موظف، وعدد الآثاريين بينهم حوالى عشرة آلاف. ويبلغ عدد الآثاريين المصريين في مصر حوالى ستين ألفاً ولا توجد نقابة لهم تضمن لهم حقوقهم والعيش الكريم والتأمين الصحي. لا يجب الفصل بين الآثار والآثاريين، فالاهتمام بهم تماماً مثل الآثار يمثل الحل الأمثل لكل مشكلات الآثار ومشكلاتهم.
كل هذه الأخطار تعود إلى أن الآثار هي الابن غير الشرعي للدولة التي لا تعترف بها ولا تضعها بين مؤسساتها، فالجميع يرفع يده عنها! فبعد تأسيس مصلحة الآثار في عهد خلفاء محمد علي باشا، كانت الآثار تتبع مؤسسات غير معنية بها على الإطلاق، فإما كانت تتبع وزارة الأشغال العامة والموارد المائية أو وزارة المعارف في العهد الملكي، ثم وزارة الثقافة والإرشاد القومي ثم صارت هيئة الآثار المصرية التابعة لوزارة الثقافة في العهد الجمهوري، إلى أن صارت المجلس الأعلى للآثار برئاسة وزير الثقافة في 1994.
ثم صارت وزارة دولة لشؤون الآثار في 2011، ثم مجلس أعلى للآثار يتبع رئاسة مجلس الوزارة، ثم وزارة دولة لشؤون الآثار ثانيةً، ثم وزارة دولة للآثار والتراث القومي، ثم أخيراً وزارة آثار من دون قرار جهموري بتشكيل هيكلها، فضلاً عن استمرارية المجلس الأعلى للآثار الذي يعتبره البعض كياناً موازياً لوزارة الآثار لأنه ليس لها هيكل إداري بعد. وبعد «ثورة يناير» وحتى الآن، تغير على وزارة الآثار خمسة وزارء، أربعة منهم من خارج أبناء الوزارة، وجاؤوا من إحدى الجامعات المصرية كأساتذة إرشاد سياحي أو آثار.
وحلاً لتلك المشكلات التي فشلت حكومات عدة في حلها، يجب البحث عن مصادر أخرى للتمويل لحماية الآثار والعاملين فيها، لذا فقضية التمويل هي القضية الأكثر إلحاحاً الآن وهي حل لكل المشكلات التي تعاني منها آثار مصر والعاملون بها حالياً. وتمويل الآثار المصرية بطرق غير تقليدية هو القادر على حل كل مشكلات الآثار المصرية التي تحتاج إلى بلايين الجنيهات لسداد ديونها وترميم آثارها وإجراء اكتشافاتها واستكمال مشاريعها وافتتاحها ورعاية العاملين فيها وتعيين المتخرجين الجدد من طلاب كليات وأقسام الآثار في الجامعات المصرية. ولا بد من رسم خريطة تشخيصية لكل الأمراض التي تعاني منها الآثار والعاملون فيها ووضعها على منضدة الطبيب في إطار خطة أثرية إستراتيجية: واحدة قصيرة المدى، والأخرى بعيدة المدى، ووفق برنامج زمني يراعي الأولويات ووفقاً لخطة مدروسة ومحكمة بدقة يقوم عليها عناصر ذوو كفاءة عالية وإعطائهم حرية اتخاذ القرار والتمويل والتدريب الكافيين.
إن النظام التقليدي القديم لإدارة منظومة الآثار والآثاريين لم يعد صالحاً لإدارة آثار مصر في أواسط العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ويجب على الدولة إدراج وزارة الآثار ضمن الموازنة العامة للدولة والإقلاع عن فكرة التمويل الذاتي لوزارة الآثار التي لم تعد مجدية في ظل غياب الإيرادات بعدما كانت الآثار الدجاجة التي تبيض ذهباً للدولة المصرية والجميع يتهافت للسيطرة عليها. ويجب أن تنظر الدولة إلى الآثار والعاملين فيها واعتبارها واعتبارهم كنزاً إستراتيجياً للحاضر وللمستقبل يجب الحفاظ عليه وعليهم والإفادة المثلى منها ومنهم والدفع بالاستثمار الاقتصادي الأمثل للآثار والتوظيف الأفضل للعاملين فيها ورفع كفاءتهم وفقاً لاقتصادات السوق الحرة المعاصرة.
(الحياة)