‘روح الحكاية’ الفائزة بجائزة الدولة التشجيعية في مصر (2 / 3)

د. شريف عابدين
يتم أثناء التلقي المتوازي، الاشتغال على علاقتين متماثلتين يتم استحضارهما في نفس الوقت في الذاكرة القصيرة للمتلقي، ويعد هذا ممكنا علميا حيث إن هذه الذاكرة ذات سعة محدودة تسمح بالقبض فقط على عدد معين من المحددات المعرفية (لفظا ومعنى) تبعا لقانون ميلر.
في المعالجة المتوازية يتمكن المتلقي من استحضار العلاقتين في نفس الوقت.
يستعرض نقاط التقاطع الممكنة بينهما (أيهما يتأهل لدور الفاعل وأيهما لدور المفعول به؟)
ويقوم بتوليفهما أو يقوم باستنتاج تبعات منطقية لعناصر متقابلة للـ (أداء/الكينونة/الامتلاك).
هذا التمدد السردي (السرد الممتد) يضيف إلى المشهد العديد من الخصائص المرتبطة بكل من الكائنين ويسمح لفتح أفق التلقي والانزياح إلى عوالم جديدة.
وهكذا نرى كيف تسمح هذه التقنية بالتنمية الوظيفية للمتلقي بما يمنح القاريء دورا ويدعو للابتكار وتفعيل الفكر الابداعي.
إن البحث عن دور للقاريء يمثل ثورة على الجاحظ للخروج من قائمته القصيرة الملقاة على قارعة الطريق لقائمة طويلة تتسع لشاعة فضاء العقل البشري،
وبذلك يتماهى التناظر المنطقي إبداعيا مع البارالل بروسسنج على الجانب التقني.
وتأتي القصة الوامضة ضمن سياق ثورة على نمط التلقي/الاستهلاك التقليدي.
فنحن نستخدم باستفاضة المصغرات في تلقي المتعة والمعرفة وهي أنماط استهلاكية سلبية، فلماذا لا يكون هناك نمطا إيجابيا للتلقي؟
إذن هي دعوة للتعامل مع نمط مصغر في سياق العصر وهي دعوة لإعمال التفكير الإبداعي لتحقيق المتعة والمعرفة.
المتلقي العصري يحثك: هات من الآخر! إنجز!
وفي النهاية ينتظر أن تضفي عليه البهجه أو تنبهه لتفادي ما ينغص، وهذان يمثلان طرحا أنانيا.
من هنا تبنى الحكي منظورا مختلفا مجردا موحدا يتعامل مع الحركة السردية. على أنها محاولة حل مشكلة تواجه أحد الكائنات: إنسان حيوان نبات جماد أو العناصر ماء هواء تراب.
ما المشكلة التي واجهت النسيم حين اصطدم بنافذة مغلقة؟ أو مشاعر المعاناة التي انتابت مياه المستنقع الراكدة أو الأرض البور التي لا تثمر؟
إن حل اللغز يتطلب اللجوء إلى الحساب والمنطق.
أما في حل مشكلة الكائن أو العنصر فعلينا أن ننزع نحو المجاز والتخييل. وهنا يتبادر إلى ذهننا مقولة أينشتاين بأن الخيال أكثر أهمية من المعلومات.
في هذه الرؤية المختصرة يتضح لنا كيف يمكننا، إعادة قراءة النص المكثف واستعراض تقنياته المختلفة من منظور المرسل المزدوج والمعالجة الإدراكية المتوازية.
• التناص
التناص هو استحضار سيناريوهات لعناصر سردية ذات دلالات متعارف عليها مسبقا.
يعني مثلا: عندما تضغط زر الكهرباء تضيء مصباحا لكي ترى.
ماذا إذا قام ضغط زر مفتاح الضوء بتشغيل أغنية أو أي وسائط (نشرة أخبار/ تلاوة قرآن/ مقطع من فيلم).
إذن حدث انتقال من الرؤية إلى السمع وبالتالي ننتقل من التفاعل مع أحداث مرئية إلى سمعية بكلمات مفتاحية جديدة وتأويلات مختلفة. إضافة إلى اﻻنتقال السياقي.
توظيف التناص
1- إعادة معالجة إعدادات أصلية.
2- دمج (عناصر سردية) في نص حديث.
والتناص يأتي أيضا في إطار دعوة القاريء للتخييل وفي سياق اللعبة المكشوفة بين الكاتب والقاريء والتي يصل مداها إلى مرحلة الميتا سرد
فكأن الكاتب يستهل النص بـ : تخيل أن! ماذا لو! لو أن ..
ففي نص “قرار جريء” قرر ابن المقفع نزع قناع كليلة ودمنة، والتوجه إلى السلطان مباشرة
ليخبره برأيه في الأسلوب الصحيح لحكم الرعية، حتى ولو دفع رأسه ثمناً.
وعندما وقف أمام السلطان، حاول أن يتكلم، فاكتشف أن رأسه مقطوع بالفعل.
يقوم الكاتب بإعادة معالجة إعدادات أصلية في قصة كليلة ودمنة بأن يفترض نزوع ابن المقفع إلى المباشرة، وقد سمحت هذه البنية أيضا بتوظيف التناظر.
ابن المقفع يرتدي قناعا ليعبر بشكل رمزي.
ابن المقفع يعبر صراحة ويطرح أفكارا من ذهنه مباشرة.
نزع القناع: قطع الرأس.
• المفارقة
تؤدي المفارقة إلى هوة إدراكية لدى المتلقي.
إن الهم الأساسي للكاتب في السرد التقليدي هو إقحام القاريء/ إدماج القاريء بغرض التفاعل الحميم مع عناصر النص. وعندما يصنع المفارقة فإنه يمسك بتلابيب القاريء ويودي به إلى هوة إداكية.
ففي السرد التقليدي: تسعى الشخصية للانتقال من حالة واقعية/غير قياسية إلى حالة مثالية/قياسية. وفي المفارقة: ينزاح الكائن من السلوك القياسي/المثالي إلى سلوك غير مألوف/غير قياسي.
في السرد التقليدي يحاول الكاتب أولا أن يجعلنا نتعاطف مع الفقير لنتابع وننتظر نتيجة قيامه بالتسول لتلبية حاجته. أما في المفارقة فبمجرد أن يعلن لنا الكاتب: أن الرجل الغني يتسول حتى يلفت انتباهنا دون إرادتنا ويثير التعجب لدينا: لماذا يتسول؟ وما هي تبعات ذلك السلوك غير المألوف؟
في السرد التقليدي ننظر دائما إلى الأمام فقط ماذا سيحدث (بعدما يسعى الكاتب جاهدا إلى أن يجعلنا نتعاطف مع الشخصية)، بينما يلوي الكاتب أعناق انتباهنا عنوة لنستطلع ما سبق: لماذا حدث؟ ونتيجة ما يتبع/يلحق: ماذا سيحدث؟
تمثل المفارقة هوة وجدانية لاستشعار الخروج عن المألوف وهوة معرفية لإدراك الخروج عن المنطق كما تثير الرغبة في إزالة المنغص وإضافة المنتقص بأن تنبه شعور المتلقي وتحث ذهنه دون إرادته (تلقائيا) على أن يبريء الإنغاص ويكمل الانتقاص.
• المفارقة: المرسل المزدوج
نص “لوحتي”
“أنا فى الربيع. لكن عاصفة شتائية باردة اقتلعت كل أوراق أشجار الغابة الكثيفة وألقت بها فى حجرتى حتى كادت تخنقني. زعقت مناديًا أولادي. لا استجابة. هل سمعوا؟
قمت بصعوبة شديدة محاولًا وقف نزيف الأشجار لكن الأغصان السميكة تساقطت من اللوحة فوق رأسى وأنا أمد قدمى خارج الغرفة”.
مفارقة زمانية بين عناصر الربيع: أشجار، وعناصر الشتاء: عاصفة، التفاعل/ التقاطع > تراكم > اختناق.
مفارقة مكانية: الغابة: أشجار كثيفة، الغرفة: حيز ضيق، التفاعل/ التقاطع: اختناق.
الحكائية هنا تتمثل في الشعور بالاختناق نتيجة الإعدادات السابقة.
>رغبة في المساعدة>اعتراض الرغبة بالتكدس
صوت الاستغاثة لا يصل للمنقذ
> سلوك بديل = الهرب
نتيجة السلوك ومدى قدرته على التلبية هي رهان القصة القصيرة جدا.
هل أنقذه الهرب أم لم ينقذه من الاختناق؟
يفاجئنا الكاتب بالقفلة المثيرة التي تدعو للالتباس. “تساقطت فوق رأسي الأغصان السميكة حين مددت قدمي خارج الغرفة!”.
قد يفض الاشتباك أن الخطر الذي يداهم السارد مصدره اللوحة لكن الإيهام الحكائي في إعدادات النص بتجسيد الكائنات غير المادية وردود الفعل التعبيرية يجعل الأمر أقرب إلى الواقع. ويرقى التصوير هنا إلى رسم مشهد حي بمؤثرات الصورة والصوت.
يثير هذا النص إشكالية الهدف من صناعة المفارقة، حيث إنها ليست هدفا في حد ذاتها.
وغالبا ما يتساءل المتلقي عن: كيفية حدوث المفارقة؟
الخدع البصري هنا على خلفية تجربة السارد الشخصية وتبعات حدوث المفارقة، تم تجسيدها وتوظيفها بالتوازي والتقاطع بين الربيع والشتاء والغابة والغرفة لتعميق التأثير بالاختناق، ثم اعتراض التلبية ويتضاعف التأثير. خاصة إذا علمنا أن كل هذه الأحداث قد وقعت بالفعل في دائرة الوعي أثناء لحظة إدراك.
• التناظر المنطقي
في التناظر ننمي مخيلة المتلقي، نستحضر عوالم متوازية إلى مخيلة القاريء (صور جديدة)
>امتداد الأفق السردي باستدعاء شخصيات/عناصر/خصائص.
في نص “قبر”
“أتسكع، في البر الغربي، أجدادي المحنطون في رحم الزمن البالي، عبر حنوطهم الشمعي؛ ينظرون إلىَّ بحسرة، أنظر إليهم ببلاهة، أهندم كفني العصري، أواصل تسكعي”.
يتمثل لنا الجد>حفظ داخلي = الحنط الشمعي يحفظهم > نظرة الحسرة.
الإبن> حفظ خارجي> الثوب العصري يهندمهم > نظرة بلهاء.
ونسترجع العنوان الذي يقودنا لمنحى الكاتب “القبر” لنستنتج أن المرادف التماثلي للحنطة والخلود هو الزي العصري البالي. ونكتشف أن نظرة الحسرة في عيون الأجداد تتماهى مع بلاهتنا.
إذن صارت اللعبة الحكائية: تتمثل في الرسم المشهدي المتوازي > ثم حث القاريء للاضطلاع بدوره.
ساق لنا السارد مشهدين متوازيين لنستنبط الدلالة المعروفة لأحدهما ثم نستحضره في مخيلتنا للمقارنه بسياق المشهد الموازي. نبحث عن دلالة الكلمات المفتاحية لاستخراجها.
في نص “تردد”
ابتسامته الشبحية الساخرة صاعدت من إحساسي بالغضب والمهانة وأنا أدفع له، لكن أصابع نائب مدير الأمن وهي تعد مبلغها لاسترداد سيارته الميري؛ جعلت سبابتي ترتعش على زناد المسدس المخبأ في جيبي.
التناظر: رجل الأمن يدفع الفدية للسارق.
رجل الشارع يدفع الفدية للسارق.
تبعا للمنطق الأرسطي، يمكن التماثل المقابل لكليهما. أن يصبح محتوى جيب رجل الشارع متماثلا مع جيب رجل الأمن؛ يحتوى مسدسا، هذه نتيجة منطقية.
لكن هناك أيضا نتيجة إدراكية تتمثل في مفارقة دور رجل الأمن، تبحث الشخصية عن مدخل استرشادي لتبريء ضجرها واستنكارها. تتحسس المسدس الأرسطي في جيبها.
في نص “مقبرة السيارات”
“فى مقبرة السيارات الفاخرة. وقفت أتحسر على خسارة الآخرين، ثم نفضت تراب حذائى الرخيص، ومضيت”.
السيارة والحذاء متناظران. كلاهما يدلف داخله ويسار به. لكن السيارة غالية والحذاء رخيص،
وهنا نرصد التقاطع.
المشهد: الكائن الغالي لا يعمل.
التوازي: نظيره الكائن الرخيص يعمل.
المتلقي يتساءل. السارد يسوق المدخل لفض الاشتباك.
الحذاء ينفض ترابه.
السيارة نسبيا / مجازا صارت ترابا (في المقبرة).
• الانزياح
هو الانتقال من كائن معين إلى كائن مختلف، وبالتالي تنتقل/ تتغير معالم زمكانية المشهد السردي إلى عالم جديد مبتكر من الكائنات والزمكانات، وهو تقنية إبداعية شائعة. والانزياح يسمح لنا بإدراك مشهدين متوازيين متتاليين مرتبطين. ويسمح التكثيف /النص المقتضب باحتضانهما في حيز الذاكرة الحسية في نفس الوقت.
في نص “حصاد”
“شبحها الذي خايلني طويلا عبر أغصان فكرة قديمة برائحة ظلام متخثر وبلون عطر عتيق، هو ما اصطدته اليوم بقبضة أنف آيل للبكاء”.
نكتشف ركني الانزياح:
1- شبح يمثل كائن.
2- أنف كائن آخر.
عتبة/بوابة الانزياح: من رائحة الشبح إلى أنف الكائن الآخر.
الشبح يقبع في ذاكرة الماضي. أنف الكائن في الواقع الحالي. معنوي>مادي. تخيلي>واقعي. لون ورائحة>عين تبكي. مثير>حاسة مقابلة. الانتقال من حالة التذكر إلى فعل البكاء.
(ميدل ايست اونلاين)