«زهرة المانغو» لحظات فارغة الشكل مكتنزة المضمون

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-

أنا منحازة إلى كتابات أنطوان أبو زيد، كتابة أكاديمية وشعراً، وعلى العموم كل ما يكتبه. من هذا الانحياز أبدأ هنا مع مجموعته القصصية الصادرة حديثاً عن «الفارابي» تحت عنوان: «زهرة المانغو». «زهرة المانغو» أعلى من انحيازي على كل حال، تتفوق عليه، تؤكده وتتخطاه. قصصه في المجموعة شديدة الإيجاز، مضغوطة، وتقريباً غير قابلة للنمو شكلاً ـ سوى في إيحاءاتها الداخلية الوفيرة ـ أو التمديد وإلا لأصبحت مصطنعة ومُخادعة. مونولوغ أبو زيد مستند على معرفته لما لا نراه في الغير، لما لا ننتبه له، مع ذلك يقتصد في كتابته حد الغموض، وكأن ما يكتبه هو طبقة ضئيلة ساكنة فوق ركام هائل مما لم يكتبه.

لا يعرف أبو زيد كيفية القبض على مفهوم قصة قصيرة حقيقي فحسب بل كيفية استخدامه لخلق شكل فني، شكل بسيط، شفاف، متوتر وجميل، مثلما يتبدى في كل قصصه، يبدأها كضربات بيانو، بملاحظات غير شأن، لكنه يجمع المشهد على ثقله، كما لو يحميه من العنف الدائر خارجاً، ما يمنح قصته أو قصصه وحدتها «الكارثية»، المدهشة والمثيرة للإعجاب: «وكان يتذكر، إلى ذلك، التنقيط الهائل والرائع الذي كانت تحييه به الأمطار الأولى صبيحة الأول من تشرين الثاني، محاذياً يمين الشاطئ حيث كان الصيادون يتكئون على شيء. كان يراهم ينهضون دائماً كأنهم باتوا في عمق الرمل، صامتين في نهوضهم الدائم والليّن والمستميت. وكان، على الرغم من ذلك، يطرف عينيه إلى مشهد آخر. مشهد لا ينتصر بالضرورة لسيره الذي كأن لا نهاية له. بل يكون بطراوة ما فاته من الرصيف والمحلات والشرفات والطوابق التي يهمس فيها الآن بأرق مما سمع أو لفظ».

أبو زيد يكتب كما يتخيل القارئ في ذاكرته، وهذه الطريقة أكثر كرماً من المباشرة بكثير. وفيها تلك اللملمة البلاغية للحظة المشهد المتلاشية. أبو زيد بارع في تسجيل اللحظات الفارغة في الشكل، والمكتنزة في المضمون، وعنده تلك الكشوفات القصيرة او الفلاشات التي تخبرنا بأقل الممكن، وضعاً مأساوياً إنسانياً أو مجتمعياً: المعلومات، الوصف، الاهتمام العابر بلحظات الوجود الفارغة، كذلك وجود الشعر في قصته القصيرة التي لا تجعل منها جنساً أدبياً متدنياً عنه، بل ترفعها إليه وتُباهيه. المشاهد في قصة أبو زيد القصيرة قادرة على النفاذ إلى شاشة مخيلة القارئ الحساس، لتختلط بمشاهدة من حياته الخاصة، إذ يتمتع الكاتب بعُدة كبيرة تسمح له بفبركة وهم الحقيقة وبفبركة الحقيقة نفسها، ثم بقولها كما هي تماماً، ثم هناك التاريخ، استخدام حركته البطيئة، ثم تبدأ الحركة بالتسارع، وفي أثناء حياة الأفراد في الأحداث، يبدأ كل شيء بالتغير: القصف، الحرب كخلفية، الحب، الملل، الناس، الشوارع التي يمشون عليها، أثاث بيوتهم، أولادهم، الأخطار التي يعيشون قريباً منها، هكذا تفقد خلفية الحياة الإنسانية استقرارها، وهكذا يكتبها أنطوان أبو زيد حيث تتغير الأشياء باطراد، ويصبح القبض على صورة ورسمها جد متعثر. في (قصة إيكار) أكتشف سبب انشدادي إلى هذا الكاتب. قصة كما بدت، تضع نهاية لعلاقة بين رجل وامرأة، وتنتهي أو يُنهيها الكاتب في جعلها غير قابلة للتصديق في الشكل ومتطلباته، لكنني أصدقها لأنني أصدق عاطفة الحب، وهو جعلها من دون وصف لفترة ما، ولا لامرأة ما، ولا لرجل ما، ولا تقصّد أن تكون نهايتها صادمة، لكنه ترك لكتابته أن تبدو غير عابئة بشعور القارئ بالترقب، وترك لنفسه ككاتب الحرية التي يتمتع بها أثناء التأليف، وترك لي أن أُثمّن معنى أن نكون على علاقة بشخص إلى هذا الحد القاتل.

في مجموعة أبو زيد «زهرة المانغو» وهو صاحب «المشّاء» الرواية الجميلة، ذلك التوجه صوب تحقيق المساواة الجمالية لكل لحظات العمل الذي تكمن روعته في رفض استفزازي للقص، أو للقصة القصيرة غير مكتملة خاصيتها حتى اللحظة في عالمنا العربي. عشر قصص قصيرة منها «السائق» و«النجاة» و«إيكار» وسواها، ترى إلى الحياة، محوّرة قليلاً، ولها وظيفة واحدة وهي احترام الكتابة، واحترام القارئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى