سعيد الغانمي… مملكة الحيرة و«ينابيع اللغة الأولى»

حسن نصور
لا نبالغ إن قلنا إن إعادة بناء أو تشكيل خريطة تاريخيّة لنشوء واكتمال اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن، هي من القضايا الشاقة التي ظلت تواجه الباحثين، مستشرقين وعربا، عقودا طويلة منذ بداية الكشوف المتأخرة عن عشرات النقوش الأثريّة والرقم الطينيّة وسوى ذلك من المدونات النادرة القديمة. تتركّز الصعوبة في كون تدوين «الفصحى» أو لغة القبائل العربية الشمالية (النزارية)، من جهة اكتمالها النحويّ والصرفيّ، قد تقرّر في فترة متأخرةٍ نسبيا وتتصل بسيادة الإسلام كسلطة وضعيّة مدنية ودينية/ ثقافية في آن، على أغلب رُقع ومساحات العالم القديم. بهذا، يكون تكوين فكرة معقولة ومكتملة عن نشوء لغة النصّ ضرورةً لا غنًى عنها في فهم هذه السلطةِ نفسها. ومن غير ذلك تكون مجمل المقاربات الأنثروبولوجية للإسلام كظاهرة مبتورةً بالضرورة. في سبعة فصول يحاول الباحث العراقي سعيد الغانميّ (مواليد العراق/ الديوانيّة 1958) إنجاز هذه الخريطة. يستعرض الغانمي مجمل الإدماجات أو التذويبات النحوية والتركيبيّة المحتمَلة التي تشرّبتها اللغة الفصحى في مسارها التاريخيّ حتى مرحلة ثباتها النسبيّ في حقبة «الحِيرة» التأسيسيّة قبل قرون من الإسلام (القرن الثالث الميلاديّ). مرحلة الحيرة التي مهّدت في ما بعد لترسّب هذه اللغة الثمينة، كتابة ونطقا فصيحا، في الحجاز، موطنِ الوحي. نتكلم عن عمليات بحثية قد يصلح وصفها بالشاملة إذ يضعُ الكاتب أمام المتلقي مجمل الاحتمالات الحضارية التي أفضت إلى تشكيل لهجة الحيرة.
من نافل القول، إن بحثا من هذا النوع سوف يتجاوز المناهج الوصفيّة في دراسة فروقات النحو أو خصائص الكتابة باتجاه الوصول إلى بيان مستويات تغلغل القبائل العربية الجنوبية أو الشمالية في عمق الشام والعراق منذ ما قبل الميلاد بمئات السنين. الكشف عن سياقات الهجرات، أكانت غزوا أو إجلاءً قسريا، هو مدخل إلزاميّ نحو فهم عمليات التلقّح اللغويّ بين تلك الألسنة واللهجات العربية القديمة من جهةٍ وبين سائر لغات العالم القديم السامية من جهةٍ أخرى الآرامية/ الأكادية (يميل الباحث إلى احتمال كون الأكاديين عربا في الأصل)/ النبطية على وجه التحديد..
تثبيت اللغة العربية بشكلها الأقرب إلى عربية القبائل الشماليّة جاء متّسقا مع بسط نفوذ الحيرة السياسي/العسكريّ والثقافيّ على مساحات واسعة من الشام والعراق والحجاز واليمامة وصولا إلى تخوم نجران. ترافق هذا النفوذ مع نضج ثقافيّ أمكن لبيئة الحيرة الثقافية واللغوية من تذويب خصائصَ متنوّعة (تركيبيّة غالبا) من لهجات عربية جنوبيّة ومن خصائص اللهجة النبطيّة السابقة بقرون على الحيرة والمتاخمة لها، في ما سوف يُعرف بالعربية الفصحى النزاريّة (نسبة إلى نزار بن عدنان بن معد)، أو بما يسميه صاحب «اللغة علماً»، وهو الجانب الأهم، بالعربية التي وصلت معها عمليات التطور اللغويّ والتداخل بين اللهجات إلى تقرير خاصيّة التعريف بـ «ال» التعريف في أول الاسم. إنها، إذاً، عربية «ال» التعريف.
مقاربة التطور التركيبي الذي أصاب اللغة العربية سوف يسوق القارئ في العمق إلى فكرة إمكان قلب تلك المفاهيم القديمة المترسبّة ذهنيّا في ما يتّصل بالرؤية إلى تاريخيّة اللغة العربية. نتحدث، في هذا الحيز، عما يشبه إعادة الاعتبار لمركزية «الحيرة» كبوتقة سياسية محورية في نشوء لغة القرآن النصّ العربيّ المقدس. «الحيرةُ»، من نافل القول إنها بقيت مهمّشة في مجمل مقاربات المؤرخين التراثية، عدا رواياتٍ قليلة نسبيا، لمصلحة مركزية مكة المطلقة وأوالية الاهتمام بالعربية الفصحى باعتبارها وحيا وباعتبار ما يسبقها ليس سوى إيغالات تاريخية من المستحيل التوصل إلى كنهها وسياقاتها التفصيلية على وجه التحديد. زد على ذلك، ما يسوق إليه هذا الفهم من إعادة اعتبارٍ لعربيات ما قبل الاسلام ودور هذه العربيات، على تنوع مصادر أديانها وتصادماتها الثقافيّة والاجتماعيّة والبيئيّة، في كونها حِقبا ثرية وحِقبا أساسية في استيعابنا للتراث اللغويّ الساميّ عموما والعربيّ تحديدا، على نحو علميّ.
يبقى المثير في هذه البحوث انها لا يمكن أن تفقَل بحال من الأحوال. ذلك أنها تتكئ أساسا على ما يكشفه حقل الدراسات من جديدِ الرقم الطينية والنقوش الاثرية التي قد تفضي إلى إعادة هيكلة وتكوين الصلات المركزية أو الثانوية بين امهات اللغات واللهجات وعلاقاتها براهن المنطوق والمكتوب. فضلا عن أنّ إعادة الهيكلة والترسيم سوف تتمدد بالضرورة، وعلى نحو بالغ الدقة والخطورة، صوب مجالات يكون الوعي الهوياتيّ في صلب انشغالاتها. نتحدث عن مساحات لا تزال إلى اليوم أرضيّة خصبة لتداول الصراعات حول إنتاج المعنى/ الحق الذي يتيح لجماعة إثنية أو دينية ما بتثبيت سرديّة هوياتيّة أو بنفي سواها من السرديات الشائعة والمتداوَلة.
(السفير)