شجرة التوت والحرب الأهلية والفلسفة الهندوسية

رنا نجار

لا تتعب الكاتبة والفنانة اللبنانية نادين أبو زكي من التجريب في عالم الكتابة والنحت والعروض الحية التفاعلية. لا تتعب من البحث في عوالم الطبيعة والبيئة وفلسفة الوجود والتطوّر التكنولوجي وعلاقة الإنسان بمحيطه الحسي والمجرّد. تفاجئنا دائماً بأفكار وطروحات فلسفية وحياتية، فمرة تحاول أن تسأل في عرض تفاعلي بعنوان «الرجاء اللمس» (2013) ما إذا كانت الفنون التشكيلية مرتبطة بالبصر حصراً، أم أنّها تشمل حواسَّ أخرى أيضاً، وهل اللمس ضروري من أجل الرؤية الواضحة؟ ومرّة أخرى، تحاول اليوم من خلال عرض «يوميات توتة» (يعرض في 14 و15 و16 الجاري على مسرح المدينة في بيروت) الغوص في الفلسفة الهندوسية وعلاقة الانسان بالشجر لتدخل قضية شائكة وآنية هي الحرب وما تشمله من مواضيع كالقلق والموت والحياة والعنف.
لم تشأ رئيسة تحرير مجلة «الحسناء» أن تقع في فخ نقل الحرب الى المسرح وهو ما أصبح تقليدياً ومبتذلاً أحياناً، خصوصاً أن وطأة الحروب التي تحيط بنا في الواقع أثقل وأفظع من أن نمسرحها، فلجأت الى أسلوب فني سردي راقص مبتكر يستعرض ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية الجماعية والفردية على لسان شجرة توت. لكنها في النهاية تشبه أي ذكريات حرب دائرة اليوم من بورما الى سورية الى العراق وفلسطين، الى أفريقيا… وأعطت مشاركة مصمّم الرقص جان بول ميهانسيو من ساحل العاج (مقيم في فرنسا حالياً) العرض بعداً غنياً، من ناحية التنوّع الثقافي أو حكايات الحرب في المقلب الآخر، لكونه عاش تجارب مشابهة خلال حروب أهلية في بلاده.
وانطلقت أبو زكي في «يوميات توتة» من شهادات حيّة لأشخاص حقيقيين حول علاقتهم بالشجر، في بحث ميداني أجرته على الأرض قبل كتابة العرض الذي كانت تريده تفاعلياً في بادئ الأمر. واختارت الشجرة لأنها رمز للحياة والمعرفة والوقت والكوزموس (الكون) والصعود والاستمرار في كل المعتقدات. وهي في فرضية العرض تنطلق أصلاً من الفلسفة الهندوسية التي نرى فيها الشجرة منقلبة رأساً على عقب، جذورها متجهة الى الفضاء وغصونها مغروسة في الأرض. والشجرة عند الهندوس تمثّل البقاء، جذورها هي المبادئ التي تظهر من خلال الأغصان، والأغصان تُمظهر معالم الكون.
طلبت أبو زكي من «هؤلاء» أن يخبروها عن قصة محورية في حياتهم تتعلق بشجرة، ووقعت على قصّة عميقة أثّرت فيها شخصياً، وهي قصة أم حليم التي تجسّد دورها الممثلة رويدا الغالي. وهذه القصة غيّرت مخطّطات نادين أبو زكي، فحولت العرض الى مسرحي راقص بدل أن يكون تفاعليّاً كعروضها السابقة. وفي العرض تسرد شجرة التوت (صوت الممثلة والراقصة دانا مخايل) علاقتها بمن حولها والأشياء المحيطة بها، وتفشي أسرارها مع جارتها شجرة الزنزلخت ومع البشر، متذكرة أحداث الحرب الأهلية اللبنانية المملوءة بذكريات عنيفة. لن نخبر تفاصيل القصة كي لا نفسد متعمة العرض الذي يعتمد على السرد والموسيقى الحيّة (طوني عليّة) والرقص المعاصر (جان بول ميهانسيو) والإضاءة (علاء ميناوي) التي تلعب دوراً محورياً لا يقل أهمية عن العناصر الأخرى. وعاونها في الإخراج الفنان بشارة عطالله الذي تولى أيضاً تصميم الملابس.
في «يوميات توتة» تطرح أبو زكي أسئلة تحاول أن تجد لها أجوبة في العرض نفسه، مثل: «هل للأشجار ذاكرة؟ هل تتمتع بالوعي؟ هل تتواصل مع محيطها؟ هل تسمع وتشم وتشعر؟ كيف تتفاعل عاطفياً مع البشر؟ هل تتألم، هل تفرح، هل تحزن؟ ما هي مسؤولية البشر تجاه الطبيعة والبيئة في العصر الرقميّ؟». ويندرج هذا العرض ضمن سلسلة أعمال وبحوث مفتوحة تجريها أبو زكي حول البيئة أوصلتها الى الاهتمام بعوالم الشجر، كما قالت لـ «الحياة».
«يوميات توتة» عرض يجتمع فيه الحميمي والعام من منظار الشجرة، ليكون دعوة الى الحب والحياة وكسر الحواجز بين البشر محاولاً مخاطبتهم لتحمّل مسؤوليتهم تجاه الطبيعة التي تحميهم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى