«شوق الدرويش» لحمّور زيادة… ثأر صوفيّ

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

حسن نصور

 

نبني السرد في «شوق الدرويش»، (دار العين للنشر) للروائيّ السوداني «حمّور زيادة» (مواليد 1977) على مادّة تاريخية خصبة من حقبة تمثّل في حدّ ذاتها ثراءً وغموضا يغريان أيّ تجربّة حكائية. إنّه سردٌ متمكّن من تقنيات الرّواية لجهة تداخل الأزمنة السرديّة وتناسق المساحات التي تحتلها الشخوص الثانوية في علاقتها العضوية مع الشخصيّة المركزية.

يمسك النفَس الصوفي بالرواية من مفتتحها حتّى النهاية. تزخر المادة باقتباساتٍ من أعلام الصوفية الكبار، نقصد الشيخ الاكبر محي الدين بن عربيّ مرورا بالنفري ومخاطباته وصولا إلى الحلاج. إنّها قبَساتٌ يباشر بها الراوي فصوله في ما يشبه تعويذة أو توطئة للسرد حتى ينبسط في مزاج القصّة نفسها وفي تقاطيع الأمكنة ومن ثمّ يندمج في الطبائع العامة للثيمة، موضوع هذا السرد. على أن الراوي، هنا، لا يدع الاقتباسات تتفلت عشوائيا من سياق السرد الداخليّ بل نجده يتقفّى خيطا متصلا واحدا على لسان شخوصه بوصلات شعريّة صوفيّة تارة وآيات قرآنيّة طورا. كلّ ذلك يخدم القصة في دفع الشخوص إلى المصائر المحتومة.

تعرض «شوق الدرويش» الحائزة على جائزة نجيب محفوظ (2014) والمرشحة ضمن القائمة القصيرة للبوكر (2015) حقبة من تاريخ السودان خلال الثورة المهديّة سنة (1885). إنّها سيرة «بخيت منديل» العبد الأسود المملوك. سيرة يظهّر زيادة فيها ببراعة القاصّ معظم أوجه تلك الحقبة، مجاعاتٍ وأوبئة وحروبا فتاكة وخيانات وطبائع غرائبيّة وعادات لا تنعتق، بحال من الأحوال، من شرك الأسطورة وأشكال الجذب الدينيّ. مدنٌ تدك وتسقط وتباد. مدن تشاد. إنّه عالم النيل إذ تنصهر فيه أخلاط عديدة من البشر والديانات، عبيد وإماء وسادة وأمراء، يونانيون ومصريون وتركٌ وأوروبيون وبربر…

يقول الراوي على لسان أحد شخوصه: «كيف هو قتل الثأر يا بخيت؟/ مسح شفتيه بظهر كفه: كالحياة» (ص77). بعد رحلة أسر وعبودية بين خرطوم الترك والديار المصرية وأمّ درمان يقع «بخيت منديل» في غرام «حوّاء/ ثيودورا»، فتاة فائقة الحسن من الارساليّة الارثوذوكسية ذاتُ أصول يونانيّة اسكندرانية. تقع الفتاة إثر دخول «دراويش» جيش المهديّ في الاسر بعد أن فتك هؤلاء الدراويش بكل «الكفرة». ينتهي بها الامر سبية في دار «ابراهيم ودّ الشواك». تقتل حوّاء بعد محاولة فاشلة للهرب والرجوع الى مصر. يرث «بخيت منديل» عاشق حوّاء الذي افتتن بها صدفة عهدَ الثأر من كلّ مشاركٍ في أذية وقتل حبيبته. ستةٌ لا يفلت منهم في النهاية غير واحد هو «يونس ود جابر». إنّها رحلة ثأر صوفي يصل حدّ الهوس والوله. رحلة تذوب فيها الفوارق والمسافات في ذهن العاشق بين الواقع والحقيقة. إنّها روحٌ غير مفارقة تلزمه وتذوب في دمه وتختلط بجملة يقينياته الدينية، حتّى بعد موتها. تلك اليقينيات التي أخرجته للجهاد في جردات جيش المهدي، مطهر الأرض والقائم المنتظر، مؤسس «أمّ درمان» المدينة حيث بقعة ضريحه على الضفة المقابلة لخرطوم الترك. إنّه الثأر الذي ينقذ يقين العاشق بحبّه. العاشق الذي لا يرى غير وجه محبوبته.

يحسن صاحب «الكونج» (2010) ببراعة دمج مادته المتنوعة في إطار سرديّ متماسك. تبدو الاقتباسات والسياقات التاريخيّة من نسيج قصة «بخيب منديل». لا يحدس المتلقّي في أيّ من فصول النصّ بإكراه في استثمار واقعة سياسية أو تاريخيّة أو اجتماعية. وإلى ذلك لا يبدو أسلوب هذا الروائيّ مهجوسا بطرائق الطيب الصالح الآسرة في القصّ لجهة تزخيم مبنى الرواية بالديالوغات السودانية الشعبية وإنْ كان السرد، في العموم، ينحو ذلك المنحى الحكائيّ العام للسرد الروائي التاريخيّ المنبسط.

على أننا، في شوق الدرويش، لسنا أمام رواية «صوفيّة» صرف، لو صح التعبير، بل نلحظ في هذا الحيّز تخليطا ودمجا للهيكل أو الشكل الروائي سردا وقصّا بالمعجم والموضوعات الصوفية التي لا شك أنها كانت ولا تزال تشكل نمطا يتوسل دقة وبراعة عالية في الاستخدام لناحية إغناء المبنى الروائي. فهو سردٌ أتاح بقدر كبير نقل الحيز العام والخصوصيّ لتلك الحقبة على غير صعيد من دون ان ينجذب بالرواية جذبا كاملا إلى نصوص وإحالات الصوفيّة. نتكلّم عن مناخ صوفيّ يخدم سياقاتٍ ودلالاتٍ عامةٍ أراد زيادة للمتلقّي أن يتغلغل فيها من خلال فعل القراءة وما يليه.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى