صالون بيروت الفرنسي… بالعربيّة أيضاً

مايا الحاج
تحتضن بيروت على مدار السنة معرضين ثابتين للكتاب، أحدهما عربي والثاني فرنكوفوني. هذان المعرضان يؤكدان بمواعيدهما الثابتة (خلال الشهرين الأخيرين من السنة)- ولو نظرياً – أنّ الكتاب ما زال متنفساً عند اللبنانيين الذين بدأوا يختنقون نتيجة روائح النفايات وأزمات السياسة واستشراء الفساد. هكذا، يعود صالون الكتاب الفرنكوفوني (من 5 إلى 13 الشهر الجاري) في دورته الثالثة والعشرين بعنوانٍ دالّ «نقرأ معاً»، كُتب بالألوان – وللمرة الأولى – باللغتين العربية والفرنسية. كأنّ المعرض يجاهر بنيّة تخليص هويته من الصفة النخبوية ومنح نفسه مواصفات المشاركة والانفتاح على القارئ الآخر، وإن بلغات أخرى. وما نستدلّ عليه عبر دلالات المعية في الشعار الحالي «نقرأ معاً» (ضمير المتكلّم الجمع ومعاً الظرفية)، نلمسه فعلاً عند زيارة المعرض الذي تتجاور فيه الكتب الفرنسية والعربية مثلما تتقابل منصات المكتبات اللبنانية والفرنكوفونية.
هذا الانفتاح على العربية – لغةً وثقافةً – رافق الصالون في دورته الماضية حينما شاركت دور نشر ومكتبات عربية في المعرض عبر كتبها المترجمة من الفرنسية وإليها، غير أنّها اتخذت هذه المرة شكلاً أكثر اكتمالاً. لا يشعر الزائر بهذا التحوّل الاستراتيجي في بنية صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت من خلال مشاركة الدور أو المكتبات العربية الى جانب الفرنسية فحسب («أنطوان»، «لوبوان»، «اسطفان»، «فيرجين»، «سوريد»، «لوريان ليترير»، «المعارف»، و«درغام»، «غوتنر»، «الجديد» و»الساقي»… )، لكنّ الكتّاب العرب هم أيضاً مدعوون إلى ندوات وقراءات وتواقيع كتبهم، وإن كانت بترجمتها الفرنسية. السوري خالد خليفة يوقّع «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، والعراقي أحمد السعداوي «فرانكشتين في بغداد» الحائزة جائزة البوكر العربية عام 2014.
الكتّاب اللبنانيون (الناطقون بالعربية) يتحاورون مع الكتاب اللبنانيين الفرنكوفونيين، فتختلط أسماء جبور الدويهي (حي الأميركان)، عبده وازن (قلب مفتوح)، عقل العويط (الهاربة)، إيفانا مرشيليان (أنا الموقع أدناه محمود درويش)، مع أسماء مثل جورجيا مخلوف (طعم الحرية)، هيام يارد (كلّها هلاوس)، أنطوان عساف (الجندي، المحارب، الشهيد)، شريف مجدلاني (نظرة على النشر في العالم العربي)…
قد يرى بعضهم في هذه الخطوة محاولةً لمنح المعرض الفرنكوفوني جمهوراً أوسع بعد تقلّص نسبة الفرنكوفونيين أمام الزحف الأنغلوفوني الهائل. لكنّ منظميه (المعهد الفرنسي التابع للسفارة الفرنسية في لبنان ونقابة مستوردي الكتب) يؤكدون أنّ شعار «نقرأ معاً» ليس إلاّ تكريساً لوجه من وجوه الفرنكوفونية التي لا تحقّق مبتغاها إلاّ عبر الانفتاح والتبادل والمشاركة. المعرض الفرنكوفوني لم يُغيّر جلده إذاً، وإنما اختار العودة بحلّة جديدة قد تُضاعف نسبة مرتاديه وتجعله يستحقّ حقاً مرتبته المتقدمة بين المعارض الفرنكوفونية، الثالث عالمياً بعد فرنسا وكندا.
دعم فرنسي
شكّل حضور وزيرة الثقافة الفرنسية أودري آزوليه مفاجأة الافتتاح، وهي المرة الأولى التي يشارك فيها وزير ثقافة من فرنسا في معرض بيروت الفرنكوفوني. وكانت أعربت في كلمتها، عن سعادتها بانطلاق الصالون وسط أجواء إيجابية خلّفها انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بعد سنتين من الفراغ الرئاسي.
وأكّدت دعم فرنسا الدائم والمتواصل للبنان الذي قدّم كثيراً للثقافة بوجهيها العربي والفرنكوفوني. وأعلنت أزولاي عن جائزة فرنسية خاصة تقدمها حكومتها الفرنسية عام 2017، لأفضل كتاب مترجم – من الفرنسية الى العربية أو العكس – ضمن سياق دعم حركة الترجمة التي تراها أساساً في تقدّم المجتمعات وتطورها.
يشارك في الصالون نحو 90 كاتباً فرنسياً وأكثر من مئة كاتب عربي وفرنكوفوني، من بينهم ثلاثة روائيين سبق أن فازوا بالجائزة الأدبية الأعرق فرنسياً: بول كونستان (1998 عن «لعبة البو»)، لوران غوديه (2004، «شمس آل سكورتا»)، بيار لومتر (2013 عن «إلى اللقاء، هناك في الأعلى»)، إضافة الى أسماء أدبية مهمة مثل سيلفي جيرمان ونتالي آزولاي، وكاتبين من سويسرا، آن دانييه وكارول كوتو، يوقعان «الرقص المعاصر في سويسرا: 1960 – 2010»، والفنان البلجيكي الأشهر عالمياً في مجال الرسوم المتحركة جان فان هام وغيرهم…
ولمّا اعتاد الصالون اختيار دولة أو لجنة أو دار تحلّ ضيف شرف على المعرض، فهو ارتأى في دورته الحالية تكريم الشاعر والباحث والديبلوماسي اللبناني – الفرنكوفوني صلاح ستيتية، فحل ضيف الشرف وقدم في اليوم الأول محاضرة بعنوان يُرسّخ تيمة المعرض: «العربية والفرنسية: حوار لا مفر منه»، أعقبها في اليوم التالي ندوة بعنوان «تراجيدية المتوسط اليوم: أسئلة وآفاق»، ومن ثمّ قراءة شعرية من ديوانه «الصيف بغيمة كبيرة». وقد يكون احتفاء الصالون بصلاح ستيتية في مثابة احتفاء بالشعر نفسه، الذي يواجه تهديداً من أنواع إبداعية أخرى، والرواية في مقدمها، حتى بات من ضمن الأنواع الأقلّ مبيعاً.
جوائز وفنون
وكما جرت العادة منذ خمس سنوات، يُعلن خلال برنامج الصالون الفرنكوفوني اسم الفائز بجائزة «لائحة غونكور/ خيار الشرق»، التي تنظمها «الوكالة الجامعية للفرنكوفونية»، بالتعاون مع «المعهد الفرنسي». وتأتي النتيجة يوم الجمعة (11-11) بعد مشاركة طلاب الأدب الفرنسي من جامعات في لبنان ومصر والعراق وفلسطين والإمارات وجيبوتي والسودان وغيرها، علماً أن الرواية الفائزة ضمن لائحة غونكور الطويلة. ويمنح الفائز بالجائزة دعوة للمشاركة في الصالون السنة المقبلة، إضافة الى ترجمة الرواية الفائزة إلى العربية. وهذا ما تحقّق هذا العام للكاتبة الفرنسية نتالي أزولاي التي فازت العام الفائت بـ«غونكور الشرق» عن روايتها «تيتوس لم يكن يحب بيرينيس»، وقد خرجت بالعربية عند افتتاح المعرض عن دار الفارابي.
ليس التنوّع اللغوي هو عنوان المعرض الرئيس، بل شكّل تنوّع التيمات واختلافها ملمحاً مميزاً من ملامح الدورة الحالية. وربما أدرك الصالون الفرنكوفوني، قبل المعرض العربي (ينطلق الشهر المقبل) أنّ التحديات التي يواجهها الكتاب الورقي تتطلّب ثورة جدية في شكل المعارض إن لم نقل في هويتها. فالزائر لم يعد يكفيه التجوّل في صالات كبيرة تتوزّع الكتب على منصاتها، بل يحتاج إلى ما يُمتعه ويُقنعه بأنّ زيارة المعرض تختلف عن زيارة المكتبة. من هنا بدأ الصالون الفرنكوفوني الاهتمام بفنّ الرسم والتصوير والتوثيق، وشهدنا خلال دورات ماضية معارض فنية كثيرة أقيمت على هامشه، بيد أنه يُقدم هذا العام اهتماماً أكبر بهذا الشقّ، فاحتوى معرض «ارسم لي البحر الأبيض المتوسط» الذي نظمته «كارتونينغ فور ليبانون»، إضافة إلى جدارية ضخمة في خلفية جناح «أغورا» قدمتها جامعة «الألبا».
ويترافق الاحتفال بالكتب مع احتفالية خاصة بالمسرح والسينما، بحيث تُعرض ثلاثة أفلام وثائقية منها فيلم حول صلاح ستيتية، بينما أقيمت طاولات مستديرة تناقش قضايا المسرح ومن ضمنها لقاء جمع المسرحي روجيه عساف (وقّع موسوعته الفرنسية «المسرح في التاريخ») مع إنزو كورمان ومحمد قاسمي وهلا مغنية حول «مسرح التاريخ» و «مسرح اليوم».
صالون الكتاب يدعو إلى القراءة معاً بعدما كان رمزاً لقراءة نخبوية انعزالية تخصّ فئة إن لم نقل طبقة معينة من اللبنانيين. فهل يمكن الفرنكوفونية أن تمدّ جسور الشراكة مجدداً بين العربية والفرنسية؟ الجواب رهن الدورات المقبلة.
(الحياة)