صبحي موسى: ‘حمامة بيضاء’ كانت مشروع سيرة د. عبدالمنعم تليمة

محمد الحمامصي
كان مقدرا لهذه الرواية “حمامة بيضاء” للروائي والشاعر صبحي موسى أن تكون سيرة ذاتية للناقد الكبير د. عبدالمنعم تليمة، لكن الواقع المعاش للكاتب في تلك الفترة التي سيطرت فيها لغة “الحظيرة” على الثقافة والمثقفين المصريين بفضل تدجين وزير الثقافة وقتئذ فاروق حسني لهما، خرج بنسيجها عن السياق، لتشكل إدانة كاملة لنظام كامل عانت فيه الثقافة وعانى فيه المثقفون من التدليس والتزييف والاحباط.
“حمامة بيضاء” لم تحظ بالاهتمام الكافي، الذي حظيت به روايات صبحي موسى الصادره بعدها كـ “أساطير رجل الثلاثاء”، و”الموريسكي الأخير”، لذا فإن صدور طبعتها الثانية أخيرا كان فرصة لإجراء هذا الحوار مع الكاتب والتعرف على تفاصيل هذا العمل المهم الذي يفضح ممارسات النظام ضد المثقفين كما يفضح ممارسات المثقفيين ضد بعضهم البعض من أجل إغراءات سلطة النظام.
يقول صبحي موسى: “حين كتبت حمامة بيضاء في عام 2004 كنت أفكر في علاقة السلطة بالمثقف، تلك العلاقة التي جمعت نقيضين لا يجتمعان إلا في ظروف نادرة، كانت بلادنا تمر بواحدة من هذه الظروف، حيث استطاعت الدولة عبر أجهزتها وأموالها ومنحها أن تدجن المثقف، وتمنعه لعبه البسيطة لتأخذ منه صمته وقتما تريد ولسانه وقتما تريد أيضاً، هذه العلاقة بين هذين القطبين كانت واحدة من الموتيفات المهمة التي شغلت بها في هذا النص، فأخذت في رصد تطور هذه العلاقة، وكيف تحولت من شريك في صناعة القرار إلى تابع، إلى موظف يؤدي دورا يطلب منه في وقت معين، وكيف استطاع المثقف أن يهذب أحلامه وطموحاته ويصبح على قدر ومقاس السلطة وطلبها، وكيف لملم هزائمه ووزع خطاباته، فلعب دورا مزدوجاً، حيث قدم خطابا يصلح للاستهلاك الداخلي، حيث الميريدون والطلاب وغيرهم، كما قدم خطابا في الغرف الخاصة والمحافل الدولية حافظ به ومن خلاله على مصالحه الخاصة.
هكذا كانت العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة لا يمكن القول فيها بندية ولا حتى بتقدير يذكر، ومن ثم حدثت الكارثة حين قرر عبدالقادر الأطرش أن يخرج على النص وأن يعترض على ما يجرى، فما كان من السلطة إلا أن سجنت ابنه، وفاوضته عليه، وفي الأخير تركته يموت مهانا في بيته ضمن مسرحية هزلية عنوانها الاعتصام والاضراب، وباطنها خيانة المثقف الصغير لأستاذه وسعيه هو أيضا بدوره الجديد نحو الأضواء والكاميرات بكل الطرق، وإن فشل الأمر فلا مانع لديه أن يتحول إلى لص صغير، في هذه الرواية إدانة واضحة للمثقف في تخاذله وتواطؤه وانتهازيته وخيانته لنفسه ومجتمعه وجماعته، وفضح لقانون اللعبة بين الدولة والمثقف المتخاذل وغيره من الراغبين في الدخول بمحض إرادتهم في هذا القانون غير الإنساني”.
• سيرة د. تليمة
وحول مدى صحة ما أشير من أن الرواية سيرة ذاتية للناقد والمفكر الكبير د. عبدالمنعم تليمة، يوضح الكاتب أنه “أتيح لي أن أتعرف عن قرب على شخصية من الشخصيات الثقافية الثرية والمهمة في حياتنا السياسية والثقافية، متمثلة في الناقد الكبير د. عبدالمنعم تليمة، فتحدثنا حول أن جانبا من سيرته يصلح لأن يكون عملا روائياً، في البدء توقع الرجل أن العمل سيكون سيرة ذاتية، لكنه بعد قراءة النصف الأول من الرواية وجدني ابتعدت تماما عن هذا المنحى، وأخبرته أنني لا أكتب سيرة ذاتية بقدر ما أستفيد من جوانب الثراء الفكري والثقافي والاجتماعي لديه في عمل روائي، ومن ثم لست ملتزما برصد كل شيء، أبدى الرجل بروح الأستاذ التفهم الواسع للفكرة، وأبدى مباركته من جديد، وسألني عن سبب تسمية الشخصية البطل بعبدالقادر الأطرش، فأوضحت له أنه شخصية ذات أبعاد صوفية، وأنه ابن لأب وجد متصوفين، وولد وفقا لحلم رأته فيه أمه على هيئة حمامة بيضاء، وأنه دعوة تشبه دعوات الأنبياء زكريا وإبراهيم، ومن ثم فالبطل رغم كونه مثقفا ومتعلما إلا أن أعماقه الصوفية هي التي تحكمه، ومن ثم فهو في مواقف كثيرة لا يسمع من يحادثه، بقدر ما يسمع من بداخله، فلقبه الناس بالطرش، وكأنه هذا حاله الصوفي، رغم أنه في واقع الأمر على اتصال برب الحال”.
• موتيفات سياسية
ويؤكد صبحي موسى أن الرواية احتفت بالعديد من الموتيفات التي توقفت أمام الشأن السياسي، ويكشف “كان العالم قد خرج للتو من الحرب على الثانية على العراق، وكان أسامة بن لادن أشهر شخصية في التاريخ الحديث تحتل صوره الشاشات، وأخباره تملأ مختلف الجرائد والصحف، وكانت الحرب على الشيشان مازلت قائمة، والحرب على أفغانستان مازالت في الأذهان، ومذابح البوسنة والهرسك بالآلف، وكانت المظاهرات تخرج كل يوم إما من أجل العراق أو الشيشان أو أفغانستان أو فلسطين، لكنها لم تخرج لمرة واحدة من أجل المصريين الذين يموتون بالآلاف في حوادث الطرق، أو غيرهم، هذا المشهد استوقفني للتساؤل عن متى ستخرج القاهرة لنفسها، ومتي سيثور المصريون من أجل أنفسهم هم لا من أجل غيرهم، كان هذا التساؤل قبل الثورة بنحو خمس سنوات، وكانت القاهرة وقتها حبلى بالثورة، وكان علىّ كدارس لعلم الاجتماع أن أرصد ذلك في (حمامة بيضاء)”.
• الصوفية والتاريخ والأسطورة
ويهتم صبحي موسى سواء في رواية “حمامة بيضاء” أو “الموريسكي الأخير” أو “رجل الثلاثاء” اهتماما واضحا بالصوفية والتاريخ وصناعة الأسطورة، ويشير إلى أن ثمة محاور أساسية دائما في أي عمل لدي، محاور أرتكز عليها في إنتاج نصي الأدبي سواء الروائي أو الشعري، فإنها هذه المحاور الثلاث التي ذكرتها، فالصوفية بالنسبة لي هي التفسير الباطني للكون، وهي العلاقة السرية بين كل ما يجري في العلن، حيث الطاقات البشرية الكبرى القادرة على تغيير ما يحدث سواء بالإصرار أو بالروح وطاقتها أو العزيمة والجهد والإيمان، الصوفية عالم واسع ومتسع ومن يؤمن به يجده به تفسيرا لكل ما يؤرقه، لكنه تفسير روحاني غيبي، قد لا يتفق كثيرا مع الواقع وما به من معطيات منطقية خاضعة لحسابات العقل”.
ويلفت إلى أنه في رواية “حمامة بيضاء” حاول إبراز هذا الجانب في التكوين المصري، حيث الجد الأخضر المنتمي إلى أوزيريس صاحب الحكمة وأول من علم الناس الزراعة، وقيل إنه الخضر صاحب العلم اللدني الذي لم يستطع عليه موسى صبرا، وكيف سيصبر على ما لم يحط به علما، هذا هو ملخص الصوفية، وهذا كان المحور الغيبي المهم في النص، فالحياة لا تستقيم على وجه واحد، فثمة ظاهر وباطن، وكانت شخصية عبدالقادر الأطرش جماع هذين الوجهين.
أما التاريخ سواء السياسي أو الاجتماعي، وسواء القديم أو الحديث، فيراه صبحي موسى جانبا مهما وأصيلا من بنية الفكر لدى أي كاتب، و”الكاتب الذي لا يبحث عن منطق التاريخ من خلال كتاباته فإنه كاتب ضعيف، ومن ثم فأنا لا أبحث في التاريخ بوصفه حكاية، فالحكايات على قارعة الطريق، ولكني أبحث عن فلسفة التاريخ، عن القوانين الحاكمة لأدائه وعمله، وهو ما اتضح بشكل قوي في عملي “أساطير رجل الثلاثاء” و”الموريسكي الأخير”، وكان واضحا بشكل بارز في روايتي الأولى التي لم تنل حظها من الانتشار “صمت الكهنة” حيث كنت أبحث في القوانين التي تحكم تصرف الإنسان المصري، القوانين التي أسست شخصيته ثم زالت، لكن أثارها وحاكميتها مازالت موجودة منذ العصور الفرعونية الغابرة حتى الآن، وفي هذا النص “حمامة بيضاء” سعيت إلى الكشف عن جانب مهم من التاريخ الاجتماعي المصري، منذ خرج الاحتلال وانتهى عصر الاقطاع الزراعي، وظهور الطبقة الوسطى بشكلها الجديد، الطبقة التي توزعت عليها الأرض وشاركت في بناء الدولة الجديدة، سواء في عهد عبدالناصر أو السادات أو مبارك، الطبقة التي أنجبت عقل وفكر الدولة من خلال أبنائها الذي تعلموا وترقوا وأصبحوا وزراء كبار، أو معارضين كبار، أو لاعبين أساسيين في المنطقة التي تجمع ما بين المعارضة والنظام، هذه المنطقة الرخوة التي حاولت من خلالها فضح تدجين المثقف وتنظيمه عبر مزرعة السلطة، هكذا سعيت للتأريخ للتطور الاجتماعي المصري خلال الستين عاما الأخيرة، عبر أسرة لم تكن تملك شيئاً، أسرة تعيش على هوامش القرى، وصارت أسرة من قلب ومتن التاريخ الاجتماعي الحديث”.
ويقول صبحي موسى “صناعة الأسطورة هي اللعبة الأثيرة لدي، فبحكم تكويني كدارس لعلم الاجتماع والانثربولوجيا أعشق الأسطورة، وأسعى إلى خلقها دائماً، والأسطورة ليست تلك الحكايات الخرافية التي تقدمها كتب المستشرقين، لكنها الحياة التي تتجاوز منطق وحسابات العقل الظاهرة، فأن يتحول شخص معدم إلى قمة السلطة بجهد شخصي فهذا أسطورة، أن تعيش أمة على حد الكفاف لعدة قرون دون أن تدخل في احتراب داخلي أو تفتت جغرافي أو مجاعة تقضي على الجميع، وأن ينتصروا على كل ما ينصب لهم من تآمر وخطط تدبر بليل، فهذه أسطورة كبرى، هكذا أؤمن بالأسطورة، حيث يمكن صناعتها، وأعتقد أن الواقع مليء بالأساطير، من بينها الرجل الذي حصل مؤخرا على الميدالية الذاهبية في الأولمبياد في التنس، فتصور رجلا يمسك المضرب بفمه، تصور كم استغرق في التدريبات، كم دخلت الكرة في عينه ووجهه، تصور كم كانت مشاعره وهو بطل للعالم، وهو ينتصر على إعاقته، وهو أشهر شخصية في العام، تصور كم بذل من جهد وعرق وفكر، تصور أنه انتصر على وقائع المنطق وحساباته، أليس هذا بأسطورة”.
• مهزلة هيئة قصور الثقافة
وحول عمله في الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقراره الأخير لعمل انتداب إلى المجلس الأعلى للثقافة، يؤكد صبحي موسى أن ما دفعه لطلب الانتداب إلى المجلس الأعلى للثقافة هو القانون الإلهي، “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”، ويقول: “أعتقد أن هذا السؤال هو مقدمة لجواب الشرط، وما علىّ سوى أن أقوم بالجانب الذي يخصني، وأنتظر الجانب الذي يخص السماء، هذه واحدة من التصورات الباطنية لديّ عن العالم، أحملها في ذهني وأمشي بها، معتقدا فيها كالقوانين الجازمة والحاكمة للكون، وأنا أكره الاستضعاف والإهانة، أكره أن أكون من المستضعفين، وأرض الله واسعة، وإيماني بقدرتي على العمل، وقدرة الله على الرزق أوسع من قدرة من يتحكمون في قصور الثقافة الآن على الفهم لطبيعة الهيئة ودورها”.
ويوضح “ما يجري في قصور الثقافة هو مهزلة تصفية حسابات، وثقافة مماليك تتضح في أسوأ تجلياتها، وغياب واضح من قبل الدولة أو الوزارة، تلك التي تحولت إلى متفرج لا يمكنه أن يغير من قانون اللعبة، ما يجري هو عبث، وإضرار بالمال العام، فالجهود التي تبذل في الاحتراب الداخلي في الهيئة الآن كانت كفيلة بإحداث نقلة حضارية في المدن والأقاليم، لكن أحدا لا يفكر في استثمار الطاقة حتى ولو كانت سلبية، وتحويلها إلى طاقة تنير كل مكان، للأسف الروح السلبية الكارهة والمقيتة هي التي تسيطر الآن، هذه الروح جعلت من الجهاز التنويري العملاق بيتا للأشباح، الكل خائف والكل مرتعد، والكل يسعى للهروب أو يتحفز للقتل، هذه هي ثقافة منتجي الثقافة الآن، فما الذي يمكنهم أن يمنحوه لرجل الشارع أكثر من ذلك. وأنا لا أريد أن أعمل في هذه الأجواء.
• العلاقة بالشعر
ولأن صبحي موسى بدأ شاعر وأصدر العديد من الدواوين المتميزة، كان لا بد من التعرف على علاقته بالشعر الآن بعد أن أخذته الرواية، يقول “لا أعتقد، لكن فكرة التكريس لوجودي في الوسط الثقافي كشاعر لم تعد موجودة، ومنذ زمن وأنا أسعى للتكريس لوجودي كمثقف ومبدع بشكل عام، ولا أسعى للارتباط برف أو تصنيف معين، فهذه التصنيفات لم يعد لها وجود، وكوني شاعرا أو روائيا أو ناقدا أو صحفيا هي كلها تجليات لوجودي كمثقف مصري في هذه الآونة، أما إنتاج الشعر أو إصدار دواوين أو المشاركة في أمسيات مؤتمرات وغير ذلك، فهو أمر لم أعد راغبا فيه، لأن حارة الشعراء ضيقة، وصراعهم كبير، ولا أريد أن أضيق على أحد أو أنافس أحدا، فقط أستمتع بسماع نص جيد، أو قراءة نص جديد، أو كتابة نص يخصني بمعايري ورؤيتي الخاصة لكتابة الشعر، فهذا أجمل وأفضل وأبسط، وبطبيعة الحال أحتفظ في حقي في إصدار ما أشاء، فلدي ديوانان وثلاث روايات، وأخطط لعمل كتاب عن الثقافة بشكلها العام.
(ميدل ايست اونلاين)