ضياء العزاوي في صرخته المستعادة

فاروق يوسف
كما لو أن ضياء العزاوي هو الاسم الحركي لحشد من الفنانين. فالفنان العراقي الذي يقيم متحف الفن العربي الحديث في الدوحة معرضاً استعادياً لتجربته الفنية شبه الكاملة هو أقرب إلى الظاهرة الفنية منه إلى التجربة الفنية الفردية.
احتل العزاوي موقع الصدارة في المشهد التشكيلي العربي منذ عقود، على رغم أنه عاش الجزء الأكبر من حياته خارج العالم العربي، في لندن حيث يقيم ويعمل، غير أنه كان حريصاً على تمتين صلته بالثقافة العربية، كونه واحداً من أهم صناعها وسدنتها وحراسها.
قد يقال إن فناناً في شهرة العزاوي لا يحتاج إلى إعادة اكتشاف، وهو قول فيه الكثير من التسرع والتبسيط. فما لا يعرفه الكثيرون عن تطور تجربته الفنية هو أكثر بكثير مما يعرفونه، وهو مصدر انبهارهم بقوة أسلوبه ووضوح فكرته وعمق معالجاته.
في هذا المعرض، وهو الأول من نوعه الذي يقيمه المتحف منذ افتتاحه عام 2010 لفنان عربي كبير بعد سلسلة من المعارض لفنانين أجانب حرص العزاوي على أن يفتح الأبواب كلها الذي تقود إلى مختبره الروحي منذ منتصف ستينات القرن الماضي وحتى اليوم. وهو ما لم يفعله رسام عراقي من قبل سوى زميله في جماعة الرؤية الجديدة رافع الناصري حين أقام معرضاً استعادياً لأعماله في المتحف الوطني الأردني في عمان عام 2013، قبل وفاته بشهر واحد.
ضياء العزاوي (1939) هو كل ما رأيناه في ذلك المعرض الذي أقيم في مكانين متباعدين. الأول المتحف نفسه وموقعه الصحراء والثاني قاعة الرواق التي تطل على البحر. عميق وغامض وشاسع كالصحراء وعاصف ومتدفق وملغز كالبحر. هذا هو ضياء العزاوي، الفنان الذي جرد الشعر العربي، قديمه وجديده، من امرؤ القيس حتى محمود درويش من بلاغته التجريدية ليضعه في خدمة بلاغة صورية، هي الأكثر تجسيداً لما شهده الواقع العربي من فجائع عبر الخمسين سنة الماضية. وهو ما حاول الفنان أن يلخصه في لوحته المستعارة من متحف تيت البريطاني (صبرا وشاتيلا).
وإذا ما كان الفنان قد اختار عبارة «أنا الصرخة. أية حنجرة تطلقني» عنواناً لمعرضه فإن ذلك الاختيار جاء تعبيراً عن اخلاصه لروحي الشاعر والشاهد اللتين تسكنانه. هناك لدى العزاوي شعور عميق بالمسؤولية، هو شعور المثقف الذي يجد في الرسم محاولة لقول الحقيقة. وهي الوظيفة التي سعى العزاوي إلى التعامل معها بحذر شديد، رغبة منه في الارتفاع بها عن مستوى الخطاب الشعبي المباشر إلى مستوى الفن الراقي الذي يضمن له مكاناً في التاريخ الفني بعد غياب دوافعه.
كان العـزاوي دائماً شــاهداً مــن نــوع مختلف.
يده التي رفعها احتجاجاً وهبت التاريخ الفني العربي الكثير من روائعه. وهي مواد لا تزال تصلح لإنشاء مدن، تقدر أن تغمر مَن يرتادها بالأمل. هذا فنان لا يكف عن صناعة الأمل الذي يعرف أن كلفته باهظة. لقد رأى المجازر العربية، لكن بعيني أميرة سومرية. وهنا بالضبط يكمن إخلاصه لخبرته وهو الذي درس علم الآثار في مقتبل حياته. ولأن لديه القدرة على التهام كل شيء يعجبه فقد كانت خبرته مزيجاً مما تعلمه وما حلم به وما فكر فيه وما جعله هدفاً لحياته.
ما يمكن إطراؤه في هذا المجال أن العزاوي تعلم كل شيء بطريقة إعجازية. فلكي يكون رساماً سعى إلى أن يزج بيده في أصول الحرفة وهو ما دفعه في أوقات لاحقة إلى أن يسجل اسمه في لائحة كبار الحفارين العرب. وكما أرى فإن أهمية هذا المعرض بالنسبة إلى الفنانين تكمن في الدلالات الكبيرة التي ينطوي عليها معنى أن يكون المرء رساماً. فالعزاوي الذي كان يوماً متمرد جيله الكبير تمكّن مع الوقت من احتواء الحرفة بكدح الصانع الذي وهب حياته لحلم أن يكون سيداً على حرفته. وهو ما نجح فيه، مفجّراً من خلاله هبات خياله الاستثنائية.
شيء عظيم من تجربة ضياء العزاوي يحتويه هذا المعرض، غير أن تلك التجربة وهي واحدة من أشد التجارب عصفاً في الحياة التشكيلية العربية تظل عصية على الاحتواء. ذلك لأن العزاوي رجل تاريخ مثلما هو صانع فن. حيويته التاريخية كانت دائماً مثار جدل وهو الذي أرسى الكثير من القواعد في مجال أخلاقيات الفن. لذلك تمتزج صورة المفكر بصورة الرسام حين يتعلق الأمر به.
مع ذلك يظل هذا المعرض الاستعادي حدثاً تاريخياً، قد لا نرى شبيهاً له في السنوات القليلة المقبلة.
سيرة
بدأ ضياء العزاوي (ولد في بغداد 1939، ويستقر في لندن ويعمل فيها) حياته الفنية في عام 1964 فور تخرجه من معهد الفنون الجميلة ببغداد وحصوله على درجة جامعية في الآثار من بغداد.
في العام 1969، أسس العزاوي (بمعاونة رافع الناصري وإسماعيل فتاح ومحمد مهر الدين وهاشم سمرجي وصالح الجميعي) مجموعة «الرؤيا الجديدة». وخلال تفاعله مع هذه المجموعة، أستلهم موضوعات وقضايا معاصرة، لا سيما النكبة الفلسطينية. وانضم لفترة قصيرة إلى جماعة «البعد الواحد» التي أسسها شاكر حسن آل سعيد.
وفي الفترة من 1968 إلى 1976، عمل العزاوي مشرفاً على مديرية الآثار العراقية في بغداد، وعمل من 1977 إلى 1980 مديرًا فنيًا للمركز الثقافي العراقي في لندن، وساهم انتقاله إلى لندن في إعادة اكتشافه نمطاً فنياً جديداً أطلق عليه «دفاتر الفنان» وهو نوع من الفنون شجع العزاوي غيره من فناني العراق والمنطقة على استكشافه.
عُرضت أعمال العزاوي في معارض جماعية وفردية دولية، منها متاحف الفن الحديث في بغداد ودمشق وتونس، والمتحف الوطني للفنون الجميلة في الأردن، والمتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، ومؤسسة كندة للفنون في السعودية، وصندوق النقد العربي بأبو ظبي، وصندوق التنمية في الكويت، ومطار جدة الدولي، ومتحف تيت مودرن البريطاني، ومتحف فيكتوريا وألبرت في لندن، ومعهد العالم العربي، والمكتبة الوطنية الفرنسية، ومكتبة الكونغرس والبنك الدولي في واشنطن وسواها.
(الحياة)