ضياع يومك!

- ضياع يومك! - 2024-11-11
- التلفزيون بحلّة جديدة - 2024-08-22
دون اللغة لا أستطيع أنا الكتابة، ولا تستطيع أنتَ القراءة، لذا فإن اكتشاف اللغة شكّل الجهد الإنساني الأهم الذي توافَق البشر عليه. وفي تلك اللحظة ولِد التواصل الإنساني، بوصفه أنيس البشر، وبوصفه البساط السحري الذي تنتقل عليه الخبرة البشرية من إنسان لآخر، وجيل لآخر، وبلد لآخر، وأمة لأخرى.
لقد عاش الإنسان عمراً بآلاف السنين، والحكاية والحدث ينتقلان عبر المشافهة، وعبر الوصل واللقاء المباشرين، ولحين جاءت الكتابة فانتقلت بالحكاية إلى مستوى آخر. ما عاد الوصل المباشر شرطاً لنقل المعرفة البشرية، وهنا ولِد أول استغناء عن الآخر الإنسان؛ الكاتب والفيلسوف والعالِم. وحدث أول استغناء عن الوصل الإنساني المباشر والحميم، وكان ذلك بدءاً لمسيرة طويلة كرَّست ابتعاد الإنسان عن الإنسان.
جاءت الآلة الطابعة، والكتاب المطبوع، وبعدها كرّت حبات المسبحة البشرية لمزيد من الاكتشافات في نقل المعرفة والتسلية: المذياع، وتلفزيون الأبيض والأسود، والتلفزيون الملون، والكمبيوتر، وشبكة الإنترنت، ومحركات البحث، والمواقع الإلكترونية، والتلفون الذكي، وشبكات التواصل الاجتماعي.. هذه الاكتشافات في مجملها قطّعت التواصل المباشر والحميم، وكرّست بُعد الإنسان عن الإنسان، واستغناء الإنسان عن الإنسان. حتى وصل الأمر بالأجيال الراهنة إلى افتقادهم مهارة التواصل الإنساني المباشر، كونهم صادقوا الهاتف النقال و«الأي باد» ووصل أصدقاء العالم الافتراضي أكثر من تواصلهم مع الأصدقاء الأرضيين الواقعيين!
لقد اختصرت أجهزة التواصل التقني، وتحديداً أجهزة التلفون الذكي، والمحطات التلفزيونية الفضائية، الخبرة البشرية، وصار الإنسان على وصل مع الآخر أينما كان ووقتما يشاء مجّانا! وصرنا نتابع الحدث العالمي: السياسي والعسكري والاقتصادي والرياضي والثقافي والفني لحظة بلحظة وعلى الهواء مباشرة.
صادقنا الأجهزة، فأصبحت جزءاً أساسياً من ساعات يومنا. اعتدنا على مشاهدة ما تبث، أياً كانت المشاهد! وهكذا، ودون أن نعي، تسرب لوعينا: لا ضرر من متابعة ما يجري في العالم أولاً بأول، وشيئاً فشيئاً صارت حياتنا تتغذّى على ما يُبث على الهواء.
نشاهد الاجتماعات السياسية، وخطب الرؤساء.
وعلى الهواء، نشاهد أحداث الحروب اليومية الدائرة، بوحشيتها ودمارها وضحاياها، ونتابع اهتزازات بورصات العالم المالية، وبحماسة نشاهد مباريات كرة القدم، والاحتفالات الفنية والموسيقية والفكرية والثقافية، من على شاشات التلفزيون، وشاشات تلفوناتنا الذكية، نتابع كل شيء أولاً بأول. وتتبخر لحظات أيامنا وأعمارنا ونحن في عزلة وبعدٍ واستغناءٍ عن الآخر، الأم والأب والأخت والأخ والأبنة والابن، والقريب والصديق. وأخطر ما في الأمر تسرّب المشاهد الخبيثة إلى وعينا، وتقديمها بشكل بسيط يبلّد مشاعرنا، فنعتاد رؤيتها كشأن عادي!
القتل ليس شأناً عادياً، ولا الدمار، ولا تشريد البشر. ولا العري!
لحظة العالم تنضح بالتوحش، ومؤسف أن نجري معها بضياع أيامنا!
** المصدر: جريدة”القبس”