على خطى أبي جعفر

ركب المقاتلون سفنًا ترفرف برايات تمنوا لو أنها رايات التحرير في الطريق إلى القدس، لكنها ذهبت إلى تونس، لم ينم أحد هناك، كان أبو جهاد يخطط وينفذ
من البيت للمقهى ومن المقهى للمقهى، مناضلون متقاعدون، لم يكن هناك خيط يربطهم بالوطن ساعتها سوى الهواتف، يصنعون بها حكايات جديدة
عشت وسطهم، أردد ما يرددون وآكل ما يأكلون، أكلنا معًا المقلوبة بالمحبة والمسخن والمنسف بالبكاء على ما مضى ووضعنا الأمل مع اللحم والحمص
نردد القصائد على طاولتنا كأننا مجانين، كأننا استعدنا سوق عكاظ ولو بصيغة أخرى، تتطاير من طاولتنا قذائف النضال الشعرية
———————————— وحيد الطويلة
أيقظني بهاء طاهر بعد منتصف الليل بوقت طويل، توقعت أن مكروهًا وقع لوزير الثقافة، وقلت لعله لا يدري أنني ضد الوزير، لكنه فاجأني بسؤال مباغت غريب:
كيف صنعت أبا جعفر هذا؟
في الحقيقة لم أصنعه، وجدته جاهزًا للقطف.
لم يكن بهاء طاهر ضنينًا برأيه لكنه أيضًا لم يكن مبادرًا، قرأ روايتي “باب الليل” ليس بنصيحة الناقد الفذ د. صبري حافظ، بل بالشعور الذي يجعل كاتبًا يخشى كاتبًا أو روايته، على إثره طلب بهاء نسخة وغاب، اعتذر أنه أخذ النسخة لجنيف، قرأ منها لكنه نسيها هناك، بلطف بالغ طلب نسخة أخرى، بالصدفة وجدت جوار بيته نسخة مقلدة فاشتريتها له.
إذا كانت فلسطين قضيتك أو إحدى القضايا المهمة في حياتك، وإذا كنت تريد أن تعرف مآل الثورة الفلسطينية بعد أوسلو فعليك بأبي جعفر، المثال الحي عليها. نزح الفلسطينيون إلى تونس بعد وحشية شارون ووضاعة وخسة إيلي حبيقة، ركب المقاتلون سفنًا ترفرف برايات تمنوا لو أنها رايات التحرير في الطريق إلى القدس، لكنها ذهبت إلى تونس، لم ينم أحد هناك، كان أبوجهاد يخطط وينفذ وظل زيت الفتيل مشتعلًا على البعد.
حتى وقعت أوسلو، عاد المناضلون إلى غزة وأريحا، واحدة سبقت ياسر عرفات إلى هناك، حين هاتفته من قلب أريحا كان يقول لها بلهفة: صفي لي الشوارع والأشجار، ملامح الناس ولون الأرصفة وصوت الأشجار.
عادوا.
وضعت إسرائيل قوائم العائدين، دققتها، منعت الذين أوجعوها من العودة، بقي حوالي ستة عشر في تونس غير العاملين في مكتب المنظمة مع أبي اللطف، بعضهم تزوج في مدن خارج العاصمة وارتاح، يحب بلده، لكنه ربما تعب من النضال فتركه للآخرين.
عادوا إلا سبعة تقريبًا، كانت أسماؤهم بالعلامة الحمراء، على أياديهم دم الدفاع ضد بلد يسمي عصابته: جيش الدفاع.
من البيت للمقهى ومن المقهى للمقهى، مناضلون متقاعدون، لم يكن هناك خيط يربطهم بالوطن ساعتها سوى الهواتف، يصنعون بها حكايات جديدة، لكن رائحة الحكايات الجديدة نامت هناك في ربع الوطن واستسلمت لعاديتها، وبدل أن كنت تسمع: جهزوا الخرائط، حاولوا أن تدخلوا السلاح، حاولوا أن تصنعوا سلاحًا، تبدلت اللغة، بارك له على زواج البنت، الله يرحمه، مع الوقت صارت هذه اللغة وهذه المترادفات هي البطل وهي المأساة.
أصعب شيء في قصة حب وفي قصة نضال أن تتبدل اللغة.
لم تتحرر فلسطين بعد، ظهرت لهم أوسلو كفخ لا لفلسطين فقط، بل لهم أولًا.
في لحظة اكتشفوا أنهم دافعوا عن خيال، لم يخسروا إيمانهم بقضيتهم، لكنهم شاهدوها وهي تتحول إلى صفقة خاسرة بعد أن شاهدوا الخنوع على الشاشات بعد المخادع “لم نعد نتجه ببنادقنا نحو العدو، سقطت وتحولت ألسنتنا وماء وجوهنا نحو الدول المانحة”.
إذا كنت تريد في وقت أن تعرف مآل الثورة الفلسطينية بعد أوسلو فعليك فقط أن تخطف رجلك إلى تونس وتتمعن في وجوه بقايا الفلسطينيين هناك، مآل الثورة محفور في أخاديد وجوههم، بالشعلة المنطفئة في العيون والحسرة على اللسان ولا أقول الخيبة.
بطل رواية باب الليل كان يردد دائمًا: الخسارة في الماضي كانت في الأرواح، الخسارة الآن في الروح.
جلسوا في المقاهي تائهين، بالكاد يتذكرون مواعيد خروج أبنائهم من المدارس، يحركون أصابعهم في أحذيتهم بعصبية، بألم، وحين تمر ذكرى لحظة نضال يضربون الأرض بقوة مفاجئة ثم يعتذرون لك.
عشت وسطهم، أردد ما يرددون وآكل ما يأكلون، أكلنا معًا المقلوبة بالمحبة والمسخن والمنسف بالبكاء على ما مضى، ووضعنا الأمل مع اللحم والحمص في القدرة الخليلية، استعدنا مارسيل خليفة وأحمد قعبور وسميح شقير، لم نترك أغنية ولا لازمة، بل ذهبنا حتى شادية الكرمل، مغنية من أخوتنا فلسطينيي الداخل وهي تغني” غزالي اطلع في جبالي”.
عاد من عاد بجسد أو بدون روح إلا أبا جعفر، تأخرت عودته، لم تكفه خيبة أوسلو ولم تردعه، ظل هناك في العراق، يربط كل الصواميل المفكوكة، ظل يناضل حتى سقطت العراق، لم يشأ العودة لكنه عاد لتونس، اسمه في القوائم المكتوبة بالحبر الأحمر والأسود، على رأسها، كان اتحاد أهدافه مع أهل الحكم في العراق ملعبًا خصبًا له استطاع منه أن ينال من العدو، ووسيلة للآخر القريب في اللعب على المتناقضات، ليته ما عاد، لم يجد أحدًا في استقباله كأنه ابن الزوجة الأخرى، لم يجد سجادًا لا أحمر ولا أزرق، بل لم يجد أحدًا يعرفه، الجملة التي كانت توجعه حين يقدم نفسه أو يحكي عن لمحة من النضال: “أهو أنت”!
هناك أكثر من “أبي جعفر”، ضرورة النضال والتخفي، لكنني أمسكت باثنين منهما على الأقل.
عاد الرجل الذي ربط خيوط النضال فلم يجد خيطًا واحدًا يربط به ذكرياته ولا أيامه الباقية، لا يعرف أين جعفر حتى عثر عليه في البعيد، ينتظر منه هاتفًا كل يوم ليتأكد أنه على قيد الحياة، هو لا ابنه، لم تتسع له الهواتف ليحكي لابنه قصته، وليس عنده وقت ليكتب مذكراته، النضال عنده لم يكن لحظة مرت، بل لحظة قادمة، عمر ممتد.
في قلب المقهى كان يردد: القدس عروس عروبتكم، ولا من مجيب حتى جئت أنا، كنت أمر عابرًا فأكملت له: فلماذا أدخلت كل زناة الليل إلى حجرتها، ومن ساعتها قبض عليّ، بالساعات، أفرغ كل ما مضى، ما تسمح به السرية، على طاولته دفتر مكتوب عليه “حناجر القصب”، من عنوانه اعتقدت لوهلة أنه ديوان شعر، مع الأيام فك إضبارة الأسرار وعرفت أنه يحوي الخطط التي يرسلها للمناضلين في العراق وفي فلسطين.
فصيلة دمه لم تكن تقبل التسوية مهما كانت، كان يريد ثمنًا كبيرًا للدم، لاغتصاب العمر والأرض، ما حدث في أوسلو وفي العراق جعل غدة النضال عنده لا تضمر، لم يكن يتمنى أن يموت في معركة، بل تمنى أن يعيش طويلًا بعد أن ينتصر فيها، وقتها سيجد وقتًا ليحكي لأحفاده.
وجهه مخطوف طول الوقت كأن أخبارًا سيئة وصلته، حين يراني يمسك يدي بقوة، يطلب مني أن أطلب له أحد المناضلين في مصر، يقضي نصف الوقت في المكالمة ثم يتورد وجهه كأنه شحن بطارياته.
في قلب المقهى الكبير صبيحة الأحد حيث يزداد عدد المرتادين يقول بصوت عالٍ: كانت تسمى فلسطين فأرد عليه: صارت تسمى فلسطين.
نردد القصائد على طاولتنا كأننا مجانين، كأننا استعدنا سوق عكاظ ولو بصيغة أخرى، تتطاير من طاولتنا قذائف النضال الشعرية، من معين بسيسو حتى محمود درويش وسميح وصولًا لريتسوس، للأمانة صارت البنات معجبات بنا، يقتربن من طاولة المجانين الذين يرددون قصائد نزار قباني، مازال هناك نساء يعشقن المجانين أمثالنا، كان يهشُّهُنَّ عن الطاولة كمن يهشُّ ذبابًا، منه لله.
تخيلته للحظة مريضًا بالنضال، وجدت له عذرًا مع أنبل مرض، بالفعل حين لم تصدح حناجر القصب سقط في المرض، كان يوقظني في عز الليل لأذهب به للمستشفى، أجروا له خمس عمليات وفي الأخير اتضح أنه لم يكن مريضًا من أساسه، ضحك عليه مناضلو الزمن الجديد بالتجارة في الجسد والوجع، واتضح لنا أن النضال في العالم العربي أصبحت له صيغ أخرى.
لم يعش أبو جعفر حتى يرى حناجر القصب تنطلق في 7 أكتوبر، حتى لو كانت حناجر لأبناء من زوجة ثانية، لم يعش ليرى حلمه يتحقق ليغني بصوت توفيق زياد ويشد على أياديهم ويبوس الأرض تحت نعالهم.
حين قابلت بهاء طاهر بعدها سألني عن النسخة الغريبة للرواية:
هل هذه نسخة مقلدة؟
نعم، لكن أبا جعفر حقيقي.
هل قابلت أبا جعفر أم صنعته؟
قابلت مائة أبي جعفر.
** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد: 63