«على خطى العرب» في رحلة جديدة: هنا بكى امرؤ القيس وهنا أحبّ المجنون ليلى

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

حسن نصور

 

لا نعرف الكثير عن جزيرة العرب. تكاد مساحاتها ومدائنها ومسالكها الشهيرة الضاربة في القدم تبدو طلسماً من منظور الدراسات التاريخية والأثرية. حتى المستند العربيّ الأقدم، نعني الشعر الجاهليّ، فإنّ كثرة الأسماء والمواقع والأحداث في متونه، تبقى في ذهن المتلقي أقرب إلى أسطورة غير موجودة من أساطير الأولين. يمكن القول إن جزيرة العرب بأقاليمها الشهيرة، كنز مطمور غير مكتشف إلى حدود بعيدة. وتقتصر المحاولات الجديّة، ماضياً وحاضراً، للحفر والدراسة في هذا المضمار، على دراسات سلسلةٍ من المستشرقين. لكنها دراسات تبقى محدودة قياساً إلى صعوبات ترتبط بقيود شتى تفرض على البعثات، فضلاً عن أن التنقيب الجدي المتصل بآليات أكاديمية أو توثيقية يحتاج لأن يندرج ضمن مشاريع بحث ضخمة مرتبطة بالدول.

ما يقدّمه الباحث الأنثروبولوجي عيد اليحيى على قناة «العربية» في برنامج «على خطى العرب» (إنتاج قناة العربيّة 2014) على درجة من الأهمية، لأنّه يحيل مباشرة وأوليًّا إلى هذا المربّع المفقود في الثقافة العربية. انطلق الموسم الثاني من البرنامج الوثائقي على القناة قبل أيّام، ويجول في صحراء السعوديّة، بحثاً عن الأماكن التي ألقى فيها شعراء المعلقات قصائدهم، وشهدوا فيها أهم أحداث حياتهم.

اليحيى، إذ يقرأ، على سبيل المثال، من شعر امرئ القيس أو السموأل أو مالك بن الريب في المواقع المحددة بأسمائها في متون القصائد، فإنّه يعيد شعرهم إلى مجالات تتصل بالذاكرة العربية الحيّة. فالجغرافيا الثقافية المتصلة بقبائل العرب لا تزال مدمجةً، راهناً، بالتراث من عدّة مستويات. إنّها، في العمق، دعوة من اليحيى لإعادة التعامل مع أساليب تتصل بدراسة تلك المتون، بطريقة قد تضيف إليها كشوفاً بالغة التأثير على فهم النقّاد العرب لتراثهم الأدبي اللغويّ أو التاريخيّ.

غطى اليحيى في رحلته التوثيقيّة الأولى مساحة 24 ألف كيلومتر مربع بين نجد والحجاز هي حلقات البرنامج في موسمه الأول. وفي الجزء الثاني، يوغل داخل صحراء الربع الخالي (الرمال العربيّة) على طرق منها طريق البخور وطريق الحرير، ويبحث عن ممالك عربية شبه مندثرة لم يسمع أغلب العرب ربّما عن وجوده، على أن تمتدّ الجولة على 37 ألف كيلومتر. يستعرض «على خطى العرب» في رحلته الثانية تاريخ شبه الجزيرة من النواحي الجيولوجية، والإنسانية، والحضارية، والاقتصادية منذ العصور الحجرية الأولى ما قبل التاريخ، ثم ما بعد التاريخ، وصولاً إلى أقدم المستوطنات البشرية، والممالك الحضرية.

وكان مقدّم البرنامج عيد اليحيى قد عمل لسنوات في محاولة إقناع وزارات ومؤسسات ثقافيّة عربيّة، بتبنّي مشروع برنامج «على خطى العرب»، لكنّه قوبل بالرفض. إلى أن صوّر حلقة بمبادرة فرديّة، بواسطة كاميرا الـ «آيفون»، على جبل التوباد في مدينة الأفلاج حيث دارت قصة الحب الشهيرة بين قيس وليلى. وحين رفع الفيديو على «يوتيوب» حظي بمشاهدات كثيرة، ما جعل قناة «العربيّة» تتعاقد معه.

لا نستطيع تحديد تأثير هذا النوع من البرامج التوثيقية على سياق الاكتشافات والدراسات التي تتصل بجزيرة العرب. من شبه المؤكّد أن تسليط الضوء على هذا المربّع يستدرج بدرجة أولى شغف المتلقي العربي العاديّ بالتراث، إذ يصير هذا الشطر من التراث حيّاً بتماسه البصريّ أمام المتلقي. زد على ذلك أن الشغف يتصل بتلك النظرة العربية التقليدية النوستالجية إلى جزيرة العرب باعتبارها المساحة البكر لغوياً وثقافيّاً والتي منها تمظهرت في وعي العرب مستويات أوليّة من الهويّة الواحدة في النصف الأول من السابع الهجريّ. على أنّ الإشكالية تبقى في قدرة هذا النوع من البرامج على تأسيس وعي أكاديمي جديّ بالحاجة الماسة إلى فتح هذه المساحات (نجد، الحجاز…) بكل كنوزها الأثرية (دينية على وجه التحديد) على البحث والتدقيق أمام الأكاديميين عرباً أو مستشرقين. قد يكون هذه الوعي أحد الشروط الأساسيّة لتجاوز عقد حيّة لا تزال حاضرة، وقد يكمن تفكيكها، بدرجة ما، في الأثر المادي التوثيقيّ، لا في الخبر.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى