عمر لا يحتمل التخمين .. ل “ديالا البطوش”

-ديالا أحمد البطوش- خاص
(1)
الذين يتركون وراء موتهم غابات من الجمال والضحكات.. يهزون عرش الحياة ويصافحون الجنة.. أولئك الذين أمام رحيلهم لا يملك بسيط مثلي غير أن يقول:
لضحكاتكم الآمنة ألف السلام… لأرواحكم الجميلة، -وقد كان جمالها صاحبنا-، ألف السلام.
للذين سيأكلهم الحنين بعدكم الكثير من الصبر.. والضحكات المُرّة كلما سارت خطاكم بين الصور بتثاقل من لا يريد الرحيل..
الذين نخاف أن نكتب تحت صورهم ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) لأن يقين المقابر الذي يترسب في قاع القلب ساعتها سيأكل ساعات الترقب دون فسحة ثانية من تراب يرى الشمس..
لا يعود الموتى.. برغم الحياة وكل ما اقترفناه من أمل.. لا يعودون برغم الزمن الذي بددناه لنفعل ما نريد قبل أن يهرب ويترك ساعته جامدة دون تكتكة على حائط العمر القصير.. لا يعودون برغم التعب الذي أنفقناه لنجني بعده موتا سريعا… الموت لا ينتظرنا حتى ننتهي من حلم أجلناه قليلا.. ولا يتأخر ليخطف من أيدينا وضمائرنا خطيئة عاجلة.. يا لبؤس ما فعلنا!
الموتى يا صديقي لا يرجعون…
(2)
البسطاء الذين شاهدوا وجوه أبطالهم على القمر…. وآمنوا أن السماء كريمة تتصدق على أقدار أولئك الأبطال بأمتار للهرب… كأنهم لا يعلمون أن النجاة أحيانًا تحدث لأن صدفة الموت عمياء، وأن الهلاك حين تبصر…
البسطاء الذين تمددت قبورهم بين زيتونتين مثل جدتي… كان اسمها الثُريا… تتوضأ عند متكئ دمعها، وتترك ما يزيد من طعامها في قصعة فضية للقطط والكلاب، وتجود بزندها القمحي للحمام وصيصان الرب، وتصلي في محراب وحدتها ركعتين لوجه الله… لأنها متيقنه أن الله في الصلاة يصبح اقرب… كانت جدتي مجرة تتبعها إذا تمشي ملايين النجمات… وتحط في راحتيها عند الوقوف أقمار….
(3)
طريق الصحراء الذي ابتدع الكلام.. والطوفان الرملي الذي ابتلع أصابع الحروف.. والجمل الخرساء التي تعيش في قلوب العابرين إلى الجنوب.. والضمائر المعدنية والفساد الممغنط…
المطر الذي هطل كثيرًا فوق النخل اليابس والأسفلت الحار لم يغسل الأرض من رجسها… بل ترعرعت فجائع الذنوب!
النساء اللواتي وقفن مودعات على ناصية الدعاء بانتظار القناعة التي لم تأت…
لهذا أغلقنا الكتاب في فصله الأول!
(4)
الثالثة والنصف فجرًا… مدارج مليئة بالطائرات… ممرات ضيقة تكتظ بالمسافرين… حركة لا تهدأ… محطات التوقف المسماة “بالترانزيت” فرصة مرتبكة ومتداخلة لتأمل سلوك الانتظار على وجوه العابرين!
حزيران 1990 شارع فضي قصير يفصل بيتنا عن قطعة أرض حمراء… خيمات تقطعت بها السبل تتناثر هناك… رجال لهم شوارب كثيفة وطويلة وأسنان من الذهب… نساء بملابس غير متناسقة، جميلات حين يكون الجمال رثًا ويعاني من إهمال مستمر… جدائل تمارس فوضاها تحت قطع ملونة وصغيرة من القماش… نحيلات… يقرعن طبول الفرح ببراعة واحتراف… يرقصن ويتسامرن… في الليل تنسدل قمائش متحررة لتمنح من بالداخل فرصة آمنة للتكاثر… الغجر، النوّر، الدمّر… يتكاثرون خارج حدود القانون… لقد كانوا هناك، جدًا قريبون من بيتنا… في حزيران عام 1990… كنت اتسلل إلى حيث مجونهم… عندما كبرت أخبرتني صديقة أنهم في العقد الثالث من العمر يستشهدون برجلين وامرأة ليثبتوا أنسابهم… ويقدّروا اعمارهم…. انهم ينفقون الكثير من اجل ذلك… صديقتي امرأة تزاول النصب تحت مسمى حقوقي..
تشرين أول 2040… خريف العمر… ظفائر فضية تتساقط خصلة خصلة… أتأمل نسبًا مثبتًا وعمرًا لا يحتمل التخمين… ريح تعبث في غلالة الوقت ولحظة واقفة تكرّس نفسها لأولد من جديد… اسمي مكتوب على واجهة مقهى لعابري الطريق الصحراوي من وإلى الجنوب…. كتب كثيرة ملقاة على الرفوف… والارض… وبجانب السرير… كتب لا يحمل أيٌ منها اسمي…. تظل الكتب للقارئ الكهل مجهولة النسب ما لم تكن تجربته مكتوبة في واحد منها!
أريد ترانزيتًا” آمنًا يشبه خيمة ( النوّر)… تتكاثر فيه الحروف… وتولد في مهده اللغات التي لم تكتب بعد… أريد “ترانزيتًا” غير معبّد، لا تحيط به مدارج الهبوط والاقلاع… ترانزيتًا أمارس في فوضاه هبوطي الاضطراري الأخير في كتاب دون وحي الانتظار!