عندما ترتدي الدبلوماسية جبة الشعر

اجتاح وسائلَ التواصل الاجتماعي مقطعُ فيديو لسعادة السيدة لولوة الخاطر وهي تلقي قصيدة جميلة باللغة العربية الفصحى، قالت عنها إنها من وحي الأحداث في غزة وفلسطين، وقبل أن أتحدث عن تلك القصيدة وعن غزارة معناها وجمال مبناها، أجزم بأن الكثيرين ومنهم محدثكم لم يتوقعوا بأن تلك السيدة التي عرفناها منذ عام 2017م كمتحدث رسمي لوزارة الخارجية ثم مساعدًا لوزير الخارجية ثم وزيرة دولة للتعاون الدولي قبل أن تصبح مؤخرًا وزيرةً للتربية والتعليم والتعليم العالي قد اجتمعت في شخصيتها الدبلوماسية الرزينة بكل معانيها وأبعادها وهذه الشاعرية المتدفقة.
لقد كان واضحًا لكل من يتابع أحداث غزة أن سعادتها كانت من الوجوه الدبلوماسية التي لم تكن لتخفي تفاعلها وتأثرها العميق بما يحدث لإخواننا هناك، بل وجدناها أحيانًا ترافق بعض حملات الإغاثة الإنسانية وتقدم كل الدعم والتشجيع للفرق العاملة على الحدود المصرية الفلسطينية.
أما عندما ارتدت سعادتها جبة الشعر جاءت بفريدةٍ من الفرائد فنظمت قصيدة بعنوان «زمان التيه وعصا موسى»، عنوانها ينبئ عن فحواها ومقصدها ومعناها، أما أبياتها فقد تلألأت حروفها وانتظمت بإبداع وإيقاع جميل كعقد صِيغ من لؤلؤ الخليج ليحيط بجيد غزة العزة حتى إن الرائي ليحتار هل يُزيّنها أم تُزَيّنُه.
قد لا يتسع المجال لشرح القصيدة التي تماهت في أحداثها ورموزها، ببلاغة ونظم بديع، مع قصة سيدنا موسى عليه السلام وبني إسرائيل، فعندما قالت «يا سيدي هذي عصاك فألقها» شبهت الشاعرة عصا السنوار التي ألقاها على الطائرة «الدرون» وكشف بها زيف الصهاينة وادعاءاتهم ومن يدور في فلكهم بأنه مختبئ في الأنفاق، شبهتها بذلك الموقف العظيم لسيدنا موسى عندما أمره الله عز وجل بأن يلقي عصاه لتكشف زيف سحرة فرعون وتلقف ما يأفكون.
وفي أحد الأبيات تقول: «يا أم موسى لا تخافي ألقه.. فالنصر فرعونٌ يضم ونيل»، وهنا تشبيه جميل لقصة موسى الذي تربى في قصر فرعون ثم وقف ضد طغيانه وجبروته، ترمز الشاعرة إلى قصة السنوار الذي قضى في السجن 23 عامًا اعتقد العدو بأنها كفيلة بأن تنسيه قضيته، وما إن خرج من السجن حتى بدأ نضاله من جديد وقاد المقاومة في المعركة العظمى ضد الصهاينة.
وتصف الشاعرة عندما قالت: «ما ضرك الأعداءُ لكن طعنة في الظهر سددها لهم قابيل» تصف الموقف الشائن للبعض ممن يفترض أنهم إخوة في العروبة والدين وكيف أنهم خذلوا إخوانهم في غزة بل أعانوا المعتدي عليهم وشجعوه على إجرامه، وتشبه ذلك الموقف بقتل قابيل لأخيه هابيل. أما الإعلام الساخر من المقاومة، وأولئك المتخاذلون مع المحتل، فقد كانوا يروجون لكل أفاكٍ أثيم وينشرون الأكاذيب لتثبيط الأمة وتركيعها، وقد كان لهم من القصيدة نصيب عندما قالت: «والسامري على المنابر يرتقي… وله تهلل مرجف وذليل».
وقبل أن تنهي القصيدة تقول: «لا خضر في الأعراب يرجى أو فتى»، أي لا حكيم في القوم كالخضر يفسر لك ما خفي عنك من الغيب، ولا هناك من يعينك على حاجتك كفتى موسى، لذا تقول له «فاضرب، فأنت النص والتأويل» أي أنت أنت ولا أحد غيرك في الميدان، أنت النص وأنت التأويل.
استمعت لتلك القصيدة الرائعة بالأمس وأنا خارج البلاد وأعدت الاستماع لها مرات عديدة على متن الطائرة، ثم قررت أن تكون موضوع مقالي الأسبوعي وفاءً لأهل غزة واحتفاءً بهذه القامة الأدبية فيالها من جبة ولله درك من شاعرة!، وهنيئًا لوزارة التربية والتعليم أن تقودها دبلوماسية شاعرة.

** المصدر: جريدة”الشرق”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى