غادة عبد الملك.. المرأة تستعيد جذورها اللونية – شريف الشافعي

الجسرة – خاص
المرأة قماشة تشكيلية بالغة الخصوبة والثراء لمن يتمكن من فك طلاسمها واستحضار طاقاتها الكامنة، فهي “بالتة” الألوان الكاملة، فعل الحياة المنصرف في كل الأزمنة، منذ تشكل الخليقة في البدء، حتى آخر مخاض ترسم خيوطه خريطة المستقبل.
يتحول اكتشاف عالم المرأة بصريًّا إلى حالة أكثر خصوصية عندما يتم الغوص في جوانياتها بعيون وأصابع نسوية، فالرؤية الأنثوية هي الأقدر بالتأكيد على قراءة رموز وشفرات الـ”هي”، بجيناتها الوراثية الفائرة المجنونة، وكروموسوماتها الجانحة الجامحة.
في معرضها التشكيلي الأخير “فيرب تو بي” (Verb To Be) بالقاهرة، تحتفي الفنانة المصرية غادة عبد الملك بأسطورة المرأة، وتستعيد جذورها اللونية من مركز الوجود، باعتبارها بذرة الأرض، وطاقة النماء للبذور، والمعنى المرادف للأمومة والاحتواء والعطاء.
عشرات اللوحات تضمنها معرض الفنانة في جاليري “ضي” بالمهندسين (ربيع 2018)، تنوعت في أحجامها بين الجداريات الكبيرة والبطاقات الصغيرة، وفي خاماتها بين الحبر على الورق، والحبر والأكريليك على الكنفا، مطلقة مفردات الأنوثة من براويزها كجمرات بركانية متدفقة.
في معرضها “فيرب تو بي”، تتنصر غادة عبد الملك لكينونة المرأة، في مواجهة كيانات وتيارات رجعية لا ترضى لها التحقق الأمثل في مجتمعات ذكورية تهدر حقوقها ومنجزاتها. تفتح الفنانة ذاكرتها على الزمن، مستدعية تاريخ المرأة عبر العصور المستنيرة، ومتعاطية مع المرأة بوصفها تاريخًا بحد ذاتها، لا مجرد جغرافيا أو كتلة جسدانية هشة.
المرأة أو الـ”هي” أو (SHE)، في معرض غادة عبد الملك، هي أيقونة الحياة، حاملة أسرار البقاء، طاقة وباب الاستمرار، تحتفي الفنانة بقدراتها حركة ورقصًا، تقف بشجاعتها وحيدة أمام محاولات التهميش والتجريف والعزل والاختراق.
في لوحات غادة عبد الملك، تواجه المرأة الصخور المطبقة بالمرونة تارة، وبالتحدي الصريح تارة أخرى، ويصادفها التجاهل أحيانًا، لكن لا مانع، فكل ما يعنيها هو أن تكون ذاتها، وأن تفرض إرادتها، وتعيد رسم شجرتها الممتدة من سابع أرض إلى سابع سماء.
بالرغم من تيقُّنها أن سواء العواقب غالبًا من نصيبها، فإن المرأة في لوحات غادة عبد الملك تتجاهل الإيقاعات السائدة، البائدة، وتتبع لحنها الخاص، الواثق، المغاير، فهي “فعل أن تكون”، بمعنى الصيرورة، والتجسد النابض بالقوة والجمال.
تتخفف المرأة من ثقلها الظاهري في تجربة “فيرب تو بي”، لتتماهى مع الرياح في سرعتها، والرمال في تشظيها، والأضواء في انتشارها، فهي المتمردة على الثبات، الساعية بالحركات الراقصة إلى بلوغ المعرفة المرحة للوجود، بحد التعبير الفلسفي، حيث قد يعني الرقص انسلاخًا من طينة الجسد ووزنه الزائف الزائد، ومنصة صواريخ لإطلاق تفسيرات مختلفة للحياة الحرة المنطلقة بلا قيود.
الطفولة أيضًا، والحضارة، تجتلبهما الحركة الراقصة إلى إحداثيات اللوحة، فالأجساد في مهدها تكاد تتوحد بالنغمات الموسيقية، والمجتمعات القديمة في نقوشها وكهوفها تحكي تاريخ هذا الرقص، بوصفه اتصالًا مع الإيقاعات في الطبيعة البكر، بكائناتها المحبة للحياة والحركة.
وليس بالضرورة أن تقدم الحركة النسوية في أعمال غادة عبد الملك تباشير البهجة والمرح، فقد يرقص الطير مذبوحًا من الألم، وقد تتهاوى النساء مقهورات من الانسحاق في قلب الدوامات، وقد يغيب التوازن لتحل محله غيبوبة، على أن المرأة قادرة دومًا في لوحات الفنانة على المقاومة، والتعبير عن التمرد والرغبة في الاحتجاج السلمي على أقل تقدير.
لا تكتفي لوحات غادة عبد الملك بتقديم معطيات بصرية لافتة آسرة، فالعبارات الموسيقية الدافئة الدافقة والإيقاعات الناطقة لها حضور طاغٍ بالتوازي مع الحركة المهيمنة على الصورة، وتعود هذه الصوتيات بالمرأة إلى براءتها الأولى، وبالإنسانية إلى طزاجتها.
تخوض الفنانة مغامرة البكارة على كل المستويات، فالأنوثة بكارة الوجود، والحركة الراقصة بكارة التعبير، والخلفيات الصوتية المصاحبة للمشهد المتنامي تعود بالذاكرة البشرية إلى عهود سحيقة، حيث الحياة البدائية فيما قبل التلوث وحلول أمراض العصر.
ولا يعني العنفوان النسوي في معرض الفنانة غادة عبد الملك طغيان الجسد بمعناه المادي بطبيعة الحال، فالأنوثة هنا حالة وطاقة وليست غرضًا استهلاكيًّا فقيرًا، والاحتفاء بثمرات هذا الجسد لا يتخذ الطابع الغريزي، إنما هو احتفاء برحيق جمالي، قادر على إحداث ثورة في الوقت ذاته بقدرته الفذة على التجاوز والتفاعل والتفجير.
بالتوزاي مع تلك الرمزية في تناول الأنوثة، يجيء استلهام الفنانة غادة عبد الملك للرقص كمعنى أوسع نطاقًا بكثير من دلالات القيام بحركات جميلة مثيرة، فهو في لوحات معرض “فيرب تو بي” فعل تمرد على المألوف، وتزحلق على الثوابت، وتجاوز للكائن أملًا في بلوغ المستحيل.
إن رهان الفنانة غادة عبد الملك الأساسي منعقد على السؤال الدرامي الرصين “أكون أو لا أكون.. تلك هي المسألة”، وهي تتخذ من الـ”هي” قناعًا في التجربة كلها، بوصفها الكائن المستضعف، الراغب في خلخلة السائد، الطامح إلى كسر الحواجز وتحطيم القيود.
إلى جوار المرأة والعناصر النسوية المحورية، تتجاوز وتتشابك في لوحات غادة عبد الملك كائنات وموجودات ودوال أخرى، بعضها قادم من حقول التاريخ والمرويّات، فالثور الوحشي يشارك المرأة جموحها ورغبتها في التمرد والانطلاق، كما قد يكون ندًّا وعدوًّا لها، والعواصف والأتربة والأدخنة الكونية تهب من المجهول وتمضي إلى اللانهاية، والجراد يتعاظم ويتعملق ويسيطر على الصحراء، والصبارات تبتسم بزهورها للمرأة المصرّة على التغيير والتشبث بالأمل، والسماء صفحة تتسع لأبجدية النشوة والانتصار.
تكتسب لوحات الفنانة غادة عبد الملك طابعها الملحمي من تلك الأخيلة المتوالدة التي تفرز قصصًا وسرديات تخرج بالشخوص المصوَّرة من دائرة اللحظة الثابتة إلى فضاءات التطور من خلال الحكايات الشعبية على وجه الخصوص، سواء المستمدة من الحياة الحقيقية في بعض تمثلاتها، أو المستقاة من الذاكرة البعيدة في التراث الشفاهي وفي الأساطير.
من بين تلك الرموز الأخرى التي تُناطح بها التشكيلية غادة عبد الملك المرأة في لوحاتها القائمة على التنامي والصراع بين النقائض، يأتي رمز الثور ليحتل مساحة بالغة التأثير والتعبير، فمن إحالاته المباشرة القوة المفرطة وربما القدرة على العنف والفتك، وتُبرز الفنانة المرأة بضعفها ورهافتها وقد تحولت إلى قوة مضادة في مواجهة هذا الثور، كما قد تستفيد المرأة من قدراتها الأنثوية الخاصة والكامنة وتتمكن من ترويض الثور الوحشي والسيطرة عليه، لتقول الأنوثة كلمتها في النهاية رغم كل شيء.
غادة عبد الملك في معرضها “فيرب تو بي”، صرخة لونية عميقة الجذور، لا تقف عند حدود مغازلة العيون الرائية، إذ تخاطب متلقيًّا ثري الذاكرة، منفتح الحواس على أعماق راسخة وجذور تليدة وتراث موصول. هي تمنح المرأة ما تستحقه منذ الأزل من ألوان قوس قزح، وتفتح للحرية الحمراء بابًا “بكل يدٍ مضرّجةٍ يُدَقُّ”، بتعبير أمير الشعراء أحمد شوقي.
لوحات غادة عبد الملك، رسائل نسوية مكثفة لا تخص امرأة بعينها، إنما تحمل زفرات النساء جميعًا، القائلات بصوت واحد: “نحن هنا أيها العالم”.