غيابُ الكِتاب في الإذَاعة والتليفزيون

آدم فتحي

قَلَّ حُضورُ الكِتاب والثقافة في الإذاعةِ والتليفزيون، وباتَ عبئًا يتمُّ النهوضُ به من باب جبر الخواطر ورفع العتب، حتى إذا سأل أحدُهم عن الكِتاب دمغوه بقائمةٍ من الحصص والبرامج طويلةٍ عريضة، تسمح بإيجاد نسبةٍ مئويّة في الشبكة يتبجَّح بها الإداريّون عند المُحاسَبة أو المُساءَلة.

قد يكون من المُفيد هنا أن نفصّل الحديث في هويّة المُنشّطين المُكلّفين بالبرامج القليلة المعنيّة بالكتب والثقافة عمومًا. فهم واحد من اثنين: إمّا منسوب إلى عالَم الثقافة والكِتابة، وإمّا ابن الإذاعة والتليفزيون، أي منسوب إلى مجالِ الإعلام.

نحن في الحالتين نتيجة وضعٍ كارثيّ: في الحالة الأولى: نحن أمام كاتِب لا يكتب ولا يقرأ، وميزته الأساسيّة قدرٌ كبير من الوقاحة والشراسة، وينتقي ضيوفه اعتمادًا على الشّلليّة. في الحالة الثانية: نحن أمام (أنا) متضخِّمة، وهو في أفضل الحالات شخصٌ يقرأ الصحف ليُتابِعَ أخبار الفَنَّانين والفَنَّانات.

إنّ معاداة الكِتاب والثقافة في الإذاعة والتليفزيون تعني الرغبة في إنتاج مواطن ميت لا أسئلة له ولا عقل ولا مخيّلة ولا مقاومة، أي جثّةً هامدة تكتفي بالتصفيق والرقص أحيانًا وتأكل لتروث في باقي الأحيان.

في الحالتين، دون تعميم ومع حفظ المقامات واحترام الاستثناءات، يتبجَّح هذا المُنشّط بأنّه محترف، وأنّ هذه الحرفيّة تسمح له بأن يستضيف مثقَّفين، هو في كثيرٍ من الأحيان لا يعرف عنوان كتابهم الجديد الذي استضافهم من أجله.

وأيًّا كان مدارُ الاستظافة فهو لن يكون الجدل، لأنّ الجدل تبادلٌ علنيّ صريح للآراء وصراعٌ بين الأفكار تقوله الكلمات، ومقارعة الحُجَّة بالحُجَّة دون طهرانية زائفة ولا ملائكيّة كاذبة، قد يغضب فيه المُتجادلان كلّ لقناعته، لكن كلًا منهما يدخل الجدل وهو مستعد لتغيير رأي الآخر وإقناعه برجاحة رأيه.

في مثل هذه الحالة يكفُّ الجدل عن كونه جدلًا، أي اختلافًا للفكر يؤدِّي إلى إنتاج فكر جديد، ويُصبِحُ مَأتَمًا للمُحادَثَة، بل يصبح مجرَّد اقتتال وحشيّ لا نتيجة له إلّا تطبيع ثقافة العنف والإرهاب. وتبدو ضجّة الإذاعة والتليفزيون حاجزًا صوتيًّا ملائمًا ليرتكب المُجرم جريمته دون أن ينتبه إليه أحد.

ذاك هو الدور المنوط بعهدة البرنامج الثقافيّ المعنيّ بالكِتاب تحديدًا. ولذلك هو مثار احتراز المُبرمجين من ذوي المصالح الإذاعيّة والتليفزيونيّة المشبوهة. إنّ معاداة الكِتاب والثقافة في الإذاعة والتليفزيون تعني الرغبة في إنتاج مواطن ميت لا أسئلة له ولا عقل ولا مخيّلة ولا مقاومة، أي جثّةً هامدة تكتفي بالتصفيق والرقص أحيانًا وتأكل لتروث في باقي الأحيان.

إنّ الإداريّين المُعادين للكِتاب في الإذاعة والتليفزيون هُم إداريّون لا يرون المُواطن الصالح إلّا في هيئة المُواطن الميت. لذلك همّ حريصون على جرِّ كلّ البرامج، بما فيها الميِّتة ثقافيًّا تحديدًا، إلى منطقة الصراخ والضجّة بدعوى أنّ الجمهور عاوز كده، وأن شروط تليفزيون العصر الحديث هي كده.

وشيئًا فشيئًا يتحوَّل التليفزيون وتتحوَّل الإذاعة إلى ملعب رياضيّ مرئي أو مسموع نهارًا وإلى علبة ليليّة ليلًا. شيئًا فشيئًا يتحوَّل المُنشّطون إلى نوعٍ من «الدي جي» ويهبط الكُتَّاب المدفوعون إلى مثل هذه البرامج إلى المُستنقع نفسه، كي يشاركوا في العياط والزياط، أو في ثرثرة مختصين في أواخر الليل، وهو عياط وزياط من نوعٍ سالب، يختلف الأسلوب لكن النتيجة واحدة: قتل المعنى، وتعطيل التواصل، وإحالة الدماغ على التقاعد.

هكذا يُصبِحُ التليفزيون والإذاعة شيئًا فشيئًا مصنعًا لإنتاج العنف الذهنيّ والعاطفيّ والجسديّ، منصّةً لانطلاق الترويج للعنف اللفظيّ والأخلاقيّ في البرامج التي تدَّعي الحوار والجدل، حلبةً يتصارع فيها عبيدٌ جُدد، تتجلَّى فيها حماسة استعراضيّة فرجويّة تعتمد التخوين وكتم صوت المُنافس، ومونولوغات لا مجال فيها للإنصات إلى الآخر، وملاسنات يقاطع فيها الجميع الجميع.

ثمّة في المُحادثة شيءٌ ضروريّ للحياة. حتى لكأنّ الإنسان كائن محادِث من زاوية ما. وفي المُحادثة المسموعة المرئيّة أو المُباشرة (المعيشة) مُتَع وفوائد يحصل عليها الكُتَّاب والقُرَّاء (الجمهور عمومًا) تتجاوز ما يمكن أن تتيحه القراءة والكتابة.

ولعَلّ مدام «دو ستايل» عَبَّرتْ عن ذلك في كتابها «في ألمانيا»، حيث قالت: «إنها طريقةٌ أفضل لتلتحم لديهم لحظة التعبير بلحظة التفكير، وليعبِّروا عن ذكائهم وألمعيّتهم بكلّ لطائف النبرة والحركة والنظرة، وأخيرًا لينتجوا بسخاء ما يجوز اعتباره نوعًا من الكهرباء التي ينبثق منها شرر، يخلِّص البعض من حيويّته المُفرطة، بينما يوقظ البعض الآخر من خدره المُضني».

كلّ هذه الأمور لا مجال لظهورها من خلال الكتابة والقراءة. وحده الحديث عن الكتابة والقراءة في الصالون أو في الإذاعة والتليفزيون، وهما صالون العصر، يمكن أن يجعلنا نستمتع بهما وبغنائمهما. وهذا ما يحرمنا منه غياب برامج الثقافة، وبرامج الكتاب تحديدًا، عن الإذاعة والتليفزيون. إنّ تشجيع الكتابة في الإذاعة والتليفزيون هو إعادة الصلح بين القراءة الصائتة والقراءة الصامتة. إنّ تشجيع الكتاب هو تشجيع للقراءة بما هي تشجيع للتفكير. فالقراءة رياضة لمجموعة من الملكات والعضلات الذهنيّة والروحيّة والجسديّة لا تنمو ولا تتفاعل بغيرها.

والحقيقة أنّ العلاقة بينهما علاقة تكامل تامّ. فلا معنى للشراكة لولا الانفراد، ولا قيمة لانفراد لا يفتح على الشراكة. وهو ما يعنيه حضور الكِتاب من خلال الإذاعة والتليفزيون. فهو حضورٌ يعني قراءة انفراديّة صامتة لتذوُّق العمل أدّت إلى قراءة مسموعة لتقاسمه مع المُستمعين. هنا حتى المقولة القديمة المأثورة، كما قال مينغويل في كتابه، أمّا ما يُكتب فيبقى وأمّا ما يُقال فتذروه الرياح، حتى هذه المقولة يمكن تأويلها في اتجاه التكامل.

المكتوب يبقى أي يخلد، والمقول تذروه الرياح أي يُنسى

المكتوب يبقى أي يخلد، والمقول تذروه الرياح أي يُنسى، والمكتوب يبقى أي يتجمَّد، والمقول تذروه الرياح أي يحلّق كاللقاح من مكانٍ إلى آخر ويُخصب الأرض. ومن شأن وسائل الإعلام الحديثة أن تحمل الكلمات المكتوبة من مكانٍ إلى آخر في اللحظة نفسها لتصبح لقاحًا منقطع النظير.

وحتى من الناحية السياسيّة فالأمر متعادل. كان أغسطينوس يخشى أن تدفع القراءة الجهريّة إلى طرح المُستمع المُنصت أسئلةً محرجة، تستدعي تفسيرًا أو دخولًا في جدل معقَّد. بينما ذهب آخرون إلى أنّ القراءة الصامتة هي أيضًا مريبة سياسيًّا، إذ ينعدم شهود العيان بين القارئ والكتاب وتنعدم إمكانيّة الرقابة على ما يقرأ وعلى ما تثيره القراءة من أسئلةٍ أو أفكار. والخلاصة أنّ الديموقراطيّات الحديثة تجاوزت هذا الحرج وفهمت منافع التكامل بين القراءتين.

كم أخطأ «سقراط» في حواره مع «فيدروس» حين قال: «هل تعرف يا فيدروس أن العجيب في الكتابة أنّها تشبه الرسم إلى حدٍّ كبير. إنّ عمل الرسّام يطالعنا وكأنّ اللوحات حيّة تنطق… ينطبق هذا على الكلمات المكتوبة. تبدو أنّها تتحدَّث إليك وكأنّها شديدة الذكاء، إلّا أنّك عندما تسألها والرغبة تحدوك في معرفة المزيد، فإنّها تستمرّ في ترديد نفس الشيء دون انقطاع».

ظلم «سقراط» الرسم والكتابة معًا، وكأنّ الانفتاح على ما تتيحه اللوحة من تأويل هو من شأن مشاهدها وحده ولا علاقة له بمفرداتها التشكيليّة. وكأنّ مجازات النصّ ومعانيه هي نتاج مخيّلة القارئ وحده وليست نتيجة لحركة كلمات النصّ نفسه. ربّما لانطلاقه من ظروف عصره، وربّما لأنّه كان محكومًا بسياق رؤيته الفكريّة

في الحياة، في كتاب الحياة، لا يمكنك أن تعود إلى الصفحة السابقة أو إلى الصفحة الأولى كي تبدأ القراءة أو الرحلة من جديد، إلّا أنّك عندما تمسك كتابًا بيدك، كما يقول أورهان باموك في الحصن الأبيض، «فإنّك تستطيع بعد الفراغ منه أن تعود إلى البداية إنْ أردت، وأن تقرأه من جديد، كي تفهم ما هو صعب فيه، وبالتالي، أن تفهم ما هو صعب في الحياة أيضًا».

المصدر: مجلة “الدوحة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى