فادي العبد الله… الشعر على مقام الصبا الشجيّ

محب جميل
ما بين الانشغال بالسينما، والآداب، وكذلك القانون ينجز فادي العبد الله مجموعته الشعرية الخامسة «أشاطرك الألم برهة والود طويلاً» (دار الجديد، 2016). قسّم فادي مجموعته إلى سبعــــة أقسام على الترتيب: «الألم حاراً»، «نسج الريح»، «لا يموت من الحب سوى الغرباء»، «شيء يشدك بقسوة»، «صدعات»، «فوغة حزنك والضحكات»، و«مدد الرقة».
إن السمة المميزة لهذه المجموعة الشعرية هي الرقة، بالإضافة إلى جنوحها المستمر لاستعادة جماليات اللغة المفقودة يوماً بعد يوم، كأن الشاعر حاول بطريقة ما أن يهندس عالماً أشبه بفردوس لغة أرضي. ومع الدخول إلى عالم المجموعة في قصائدها الأولى تطل تيمة الاغتراب بنبرة خافتة كأن يقول: «ثمة غائب نقع في هوّة غيابه/ ثمة غائب آخر/ نغيب فيه وحدة». إن هذا الغياب الحاضر في المجموعة يتحوّل بدوره إلى طاقة تحريضية يحاول الشاعر من خلالها استرجاع ذكريات مهشمة، ولذلك تتحوّل جل الصور إلى بطاقات بريد عابرة. ولذلك يقول في مقطع آخر: «ها هنا/ كل المرصوف، حائطاً وممشى/ ابتلع لسانه/ متلثماً بالآخرين/ كغريب في الزحام». من خلال نبرة خافتة يحاول فادي تمرير أقساط متساوية من الألم والودّ معاً في مقاطع بسيطة تحتفي باللغة وتتقشف من سطوة المجاز. ولذلك تحتفي هذه المجموعة بمفردات البيئة المحيطة التي تخصّها وحدها كالشوارع، واللافتات، والأرصفة، والحوانيت، والنزهات المفقودة.
لكنّ الملمح الأبرز هنا حضور الموسيقى في ثنايا النصّ كأن الأغنيات تؤسس لمنظومة خاصة من الفقد والشجن. تتحوّل المجموعة إلى قاموس للموسيقى والروح، وتصبح أسماء الموسيقيين جزءاً من المعادلة الشعرية. يقول فادي: «أمسية من الدمع المبكم/ غدير من شذا، عذراء ميكالنجو/ تكسّر الكلمات في سوء فهم مديد متلاطم/ اختناق الصوت في الحنجرة، بريل الرخيم/ يد على خصر/ مساء البرد والعرق، ألم السينما وتحليقها/ كم عليّ من لوائح/ أرصفها». وعلى رغم من حضور الموسيقى، إلا أن المقامات التي اختارها الشاعر للعزف تبدو حزينة وتفيض بالشجن. يقول فادي: «تمتلئ الروح بالنغم/ كالقربة بالماء/ بيد أنّ الروح مثقوبة القعر/ ولن تجد ما ينقع عطشاً/ حين تظمأ في سعير الرمال».
يقول رولان بارت: «الكتاب يبدع المعنى، المعنى يبدع الحياة»، لذلك فإن محاولة الولوج إلى مقاطع هذه المجموعة وفك شيفرتها إنما تعدّ محاولةً لاستكشاف كنه الحياة في المجمل. فما بين المقاطع الشعرية الخالصة واللغة الرصينة هناك إحالات ميثولوجية تتماهى مع الإنسان الأول ومصائره في الحياة. وتتولد في المقاطع لغة شفيفة تشبه الوجد والتصوّف الروحي مما يوحي بالتأملية والمشاركة كأن يقول: «كأنما كان هناؤنا/ يساقط/ لحظات مكوّرة/ في قجة فردوس أصلي أزلي/ قجة/ كظفر الزمن/ لا تُكْسر». إنها محاولة اجتراح الأفق وترميم عطب الروح من خلال التصالح مع الذات أحياناً واستنكار الوضع القائم أحياناً أخرى: «مرّ زمن بعيد منذ أتيت هذه المدينة/ مرّ زمن بعيد منذ أنجزت ملامحها/ ورتبت هيئتها لتتفرّغ/ للحلم والسخط/ للتذمر والهوى».
يحفر فادي في مساحة خاصة من الروح؛ حيث الألم يقيم بقوة ويفرض حاله كمحصلة نهائية للعلاقات الإنسانية في العموم. لا يُمكن حذف الألم من المعادلة الحياتية، إنه ساديٌ وقاسٍ لذلك نجده حاضراً على اختلاف الأمزجة والثقافات. ولا يُمهلنا الشاعر فرصةً للنجاة من بين براثن الألم فالبياض الذي يبدو جلياً للأعين يتحوّل في ذاته إلى كوّة سحيقة تبتلع خلاصنا لذلك يقول: «أحياناً/ ثمة من يقفز أعلى من سديم الأرض/ فيما نتابع جميعاً/ سقوطنا الدؤوب نحو/ البياض… عاجزاً أنا عن مساعدته/ أسير عالمه الفاتح كوّة/ أطل منها/ كرائد فضاء/ على كرة زرقاء كانت/ أليفة». وهذا بدوره يجعلنا نطرح أسئلةً عدّة حول ماهية الشعر ومدى ارتباطه بالمعرفة الكوّنية، وضرورة تشكيل الوعي حول سيمترية العالم الشعري.
وإذا كنّا تناولنا مستويات اللغة في المجموعة ككل، فيجب ألا نغفل التناص اللغوي داخل النصّ كأن يقول: «والألم إذا تنفس/ والشعب إذا انفطر/ والحرب في الجوف ناهشة/ إن الخط صراط، للعيش، رهيف، وللموت/ في إهاب مجترح» كما في قوله تعالى «وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ». إن هذه المعرفة اللغوية لدى الشاعر جعلت من النصّ حالة من التدريب المتواصل على مفردات الألم والود من خلال تأملية واضحة وقدرة على قبض اللحظة. كأن فادي يقطع كل ما هو جامد ومتحجّر بسكين من ألق.
بقي أن نقول إن الجرعة الشعرية في هذه المجموعة تشبه الهمس في آذان الروحانيين والمصغيين من خلال تجوال في فراديس الأمكنة والذكريات ما بين طرابلس، وبيروت، وصولاً إلى باريس. ويتحوّل الشعر في فحواه إلى تقشير طبقات جلدية ميّتة، بهدف الإبقاء على أكثرها شفافيةً. يقول فادي: «هذا البحر المبسوط في الذاكرة/ أحمله وشاحاً على كتفي/ لاصقاً بجلدي/ كلّما هدهدني الفراش/ ولست أدري كيف أسلخه… ألفة البيت من ألفة نشره/ يقيم فيك أطول مما ذرعته/ وينسى فيك علامات دفئه والغسيل/ قبل أن تنسى أنت أيضاً/ أن الكاميرا ليست هناك ولا تنال طيبه». من هنا تتخذ هذه المجموعة سمتاً خاصاً بعيداً من ارتكازات القصيدة المألوفة من خلال المزاوجة بين ما هو شعوري وما هو معرفي
(الحياة)