«فتى العدالة» الذي ارتقى بمشاعره كـ«قوس قزح»

ماهر الخشن

اجتمعت السّياسة مع الأدب في «قصر الأونيسكو»، يوم أمس، لتكريم الشّاعر سليم حيدر الّذي جمع بين الأمرين خلال حياته. إلا أن العمل السّياسيّ والقضائيّ والدّيبلوماسيّ منعه من نشر كتاباته، وهو على قيد الحياة بعد، فـ «أعطى الأدب من بعيد»، كما قال مقدّم التّكريم همذان حيدر. وتلت المقدّمة مداخلات لشخصيّات رافقته سياسياً وأدبياً وإنسانياً.
قدّم سليم حيدر مسيرة سياسيّة مليئة بالإنجازات، فتنقّل بين مجلس النوّاب والوزراء والمجلس القضائيّ، مقدّماً اقتراحات وقوانين كان من أبرزها قانون «الإثراء غير المشروع» في العام 1955. أمّا على صعيد الأدب، فقدّم حيدر أعمالاً شعريّة ونثريّة عديدة نشرت معظمها بعد وفاته العام 1980، وسيتمّ توقيع بعض منها في معرض بيروت الدّولي للكتاب لهذا العام (السبت في 3 كانون الأول المقبل).
عكس ابن «بدنايل» البقاعيّة بعض فكره وعمله السّياسيّ والوطنيّ في كتاباته، فقدّم قصيدة للعدالة معلناً فيها حبّه للقضاء ورابطاً استقلاله باستقلال الوطن في كتابات أخرى. فكان حيدر «فتى العدالة» الّذي شجّع الكثيرين على عشقها ومنهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء غالب غانم الّذي أطلق عليه اللّقب المذكور.
وعلى الرغم من انشغاله بالعمل السّياسي و «رفعه إلى مقام العبادة»، إلّا أنّه أعطى الأفضليّة للمواهب، بخاصّة إذا ما تمّ استخدامها للخير العامّ، كما فعل خلال مسيرته. وقدّمته الموهبة الشّعرية والأدبيّة شخصية مغايرة بعيدة عن مشاكل السّياسة ومشاغلها، فيظهر الغزل والعشق في دواوينه، لتكون قصيدته «لذّة البوح» (1951) من أولى النصوص التي قدّمتها الفنانة الكبيرة فيروز في بداية مسيرتها الفنيّة والغنائيّة.
خلق تنقّل الشّاعر سليم حيدر بين مواقعه وموهبته شخصيّات مختلفة عنده، تاركاً المجال لعدد من الأساتذة والأدباء للبحث عنها في الصّور الّتي يقدّمها شعره. فانشغل أمين عام «اتّحاد الكتّاب اللّبنانيّين»، وجيه فانوس، في عمل اعتبره صعباً، تحرّى فيه عن «الإنسان» في سليم حيدر. واستخرج من شعره شخصيات المفكّر والوطنيّ والحضاريّ والمؤمن والعاشق. فكان الإيمان قيمة أساسيّة استخدمها حيدر في قصائده الّتي كثرت فيها الأسئلة عن سرّ الوجود، كما ذكر الزميل طلال سلمان، الذي ركز أيضاً في كلمته على «ارتقاء الشاعر بأحاسيسه فوق مشاعر التكابر ووفائه لتقدير الموهبة». أمّا العاشق في سليم حيدر، فترك قصائد كثيرة في الغزل، ألقيت منها «أنشودة الماضي»، ورأى أنّ النّجاة تكمن في التّعبير كما البوح الّذي ساعده في أعماله الشّعرية، والّذي وجده في أعماق ذاته «جذوة من لهب الحقيقة».
طغى «الخاطر» ـ كما كان أسماه الشاعر المكرّم ـ على معظم أعماله، بحيث اعتبره وليد الرؤيا الشّعرية الّتي يغذيها الحدس والشعور، حتّى أنّه تحدّث عنه في إحدى قصائده. وقال فانوس إنّ حيدر فضّل الخاطر على ما يسمّيه فكراً والّذي ينتج عن العقل والمنطق. وهكذا يمكن رؤية البعد العاطفي أو الرومنطيقيّ أكثر وضوحاً في شعره من أي أبعاد أخرى. فالرؤى الشّعرية تأخذ مكان اليقين عنده لتحرّك فكره وبالتّالي شعره للبحث عن أسئلة عديدة تبدأ من موضوع الوجود وتنتقل إلى مواضيع أخرى. كما شغل صراع القلب والعقل بعض قصائده، ولكنّه أنهاه برفض «المنطق الاحتسابي» وإهداء الفوز للرؤى المنبثقة عن القلب.
اختار سليم حيدر أن يعبّر عن كل أفكاره وصراعاته وأعماله بشعر يعتمدُ الطّريقة التّقليديّة في النّظم ولم يبتعد عن دائرة المتوارث من الشّعر العربيّ القديم. فعلى الرغم من أنّه نوّع في أشكال الشّعر وقصّر بعض أبياته، غير أنّه كان «يغفو على الأوزان»، كما يقول في إحدى قصائده.
بعد ستّ وثلاثين سنة على إطلالة سليم حيدر من منبر «الأونيسكو» في إحدى أهمّ قصائده «يا نافخ الثّورة البيضاء» في ذكرى أربعين جمال عبد النّاصر، وقف نجله «حيّان» على المنبر ذاته مخاطباً إيّاه بأبيات من قصائده، وشاكراً كل من ساعد لإطلاق ما لم يتمّ نشره من أعمال والده. كما رحّب «حيّان» بالحضور الكبير الّذي ملأ القاعة، واصفاً إيّاه بـ «قوس القزح»، المصطلح المحبب لسليم حيدر الّذي قدّم حياته للسّياسة والأدب مجتمعين.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى