«فن الأقصوصة» والتكنولوجيا… الأسباب والجذور والمواصفات

الجسرة الثقافية الالكترونية
*صبحي فحماوي
المصدر /القدس العربي
منذ صغري وأنا أحلم بتكوين مسرح أسميه «مسرح المواقف»، ليقدم قضية موجزة، ويعرض مواقف شخصيات المسرحية من هذه القضية..لتكون المسرحية؛ «فعل، ورد فعل».. «مبتدأ وخبر»..وكما يقول المثل الشعبي: «كلمة، وردّ غطاها» أو «طنجرة ولقيت غطاءها» وكنت أتخيل ألا يكون لهذا المسرح مبنى ومصاريف، بل أن تكون خشبة المسرح في ساحة موقف حافلة مؤسسة النقل العام، أو على أحد ميادين المدينة. وإذ فشلت في تحقيق حلمي هذا، فلقد استطعت استبدال الفرقة المسرحية – حسب نظرية (السلعة البديلة) ـ بهذه الأقصوصات، التي سميتها «مواقف»، تعويضاً عن الذي مضى وانقضى..
أشهد أن هذا النوع الأقصر مساحة في عالم السرد، وأعني به «الأقصوصة» أو «القصة القصيرة جداً»، قد أتاح لي الفرصة للتعبير عن أفكار كثيرة كانت تسكنني، وكنت أنوء بحملها في رأسي، ويثقلني وضعها على كاهلي، مثل ثقل «حجر سيزيف».
وبهذه الكتابة استطعت أن أنزل بيوضي الصغيرة الكثيرة، ليس على صخور البرك، وحواف المياه، كما تفعلها الضفادع، ولكن على الشبكة العنكبوتية، وعلى الورق، لتحيا، وتتقافز في كل مكان.
لقد أملت وسائل الاتصالات الحديثة مثل «الرسائل النصية بالخلوي، والفيسبوك، والتويتر، والتانجو، والواتس آب، والإيميل..وغيرها» استخدام الأقصوصة في الأدب، ذلك لأن أصحاب الأعمال والمنشغلين بكثافة في عصر السرعة، لم يعد لديهم وقت لقراءة صفحات الأدب المطولة، خاصة في السرديات مثل، الرواية والقصة القصيرة، فصاروا يُضطرون لقراءة الأقصوصة، أو لكتابتها، إذا توافر فيهم الإبداع المرموق، ذلك لأنها عمل فني مسلٍ وممتع ومفيد ومختصِر للزمن، يأتيك مثل ومضة سريعة، باهرة الضوء، قصيرة الوقت.. ونظراً للقِصَر والتكثيف في الكتابة، والتلقي السريع في القراءة، فإن هذا الفن القديم الجديد، يشجع المدارس على تقديم هذه القصص ضمن كتب مناهج تعليم الصغار، وحيثما يكونون، فإن الكبار يسعدون به.
والأقصوصة هنا هي رسالة قصيرة، يلتهمها قارئ عجول، وهي نص ذكي يخاطب قارئاً ذكياً، خاصة في هذا الجيل الرقمي، النِدِّي، سريع التعلم، الذي لا يحتاج إلى خطاب إنشائي إملائي يرتكز على الحشو والكلام المكرور والمعاد والشروحات والتفاسير المطولة، خاصة أن الشبكة صارت تقدم للمختصين كل التفاسير المطلوبة. ولقد جسدت الأفلام القصيرة جداً وأفلام الرسومات المتحركة القصيرة جداً، هذا الفن القصصي، وجعلته يفرض نفسه في ميدان الأدب.
ولقد ساهم الفيسبوك وغيره بتوصيل الأقصوصة إلى أكبر عدد ممكن من القراء، وليس هذا فحسب، بل ساهم أيضاً في تصحيح بعض الأقصوصات وصقلها.. فمثلاً أقصوصتي بعنوان «الطفل والأفعى» التي أعيد نقلها هنا…»يجلس الطفل ابن السنة الواحدة وحيداً على الأرض، وهو يأكل اللبن عند باب البيت.. تزحف أفعى كبيرة قادمة باتجاهه.. يفرح لها.. يدعوها بإشارة منه لتشرب معه اللبن.. يمسك برأسها ويقربه من صحن اللبن.. تنظر الأفعى إليه مبتسمة ثم تشرب.. تستمر محاورتهما بالإشارة سعيدين.. تدخل أم الطفل، ترتعب لمشاهدة المنظر، فتصرخ وتهجم على الأفعى وتدوس على ذيلها محاولة قتلها.. ترتد الأفعى، فتعض الأم، التي ترتمي على الأرض، ميتة». هكذا كانت نهايتها؛ ولكن أحد قراء الفيسبوك كتب لي: «لماذا تموت الأم بهذه الطريقة، غير المناسبة للفكرة!». وفعلاً قبلت نقده مشكوراً، وغيرت نهاية الأقصوصة، لتكون.. «ترتد الأفعى، فتعض الأم، التي ترتمي على الأرض بين الحياة والموت، فيهجمون لإسعافها».
هذا مثال على استفادة الكاتب الفورية من نقد القراء الأذكياء المبادرين، خاصة في عصر يتضاءل فيه دور النقاد المحترفين، نظراً لتخصص الكثيرين منهم في نقد محمود درويش ونجيب محفوظ.. أو لتفرغ الكثيرين منهم للبحث عن رغيف خبز لأفراد عائلاتهم، في عصر يمنع أصحابُ رأس المال الماعونَ عن الجائعين.. ولهذا نجد أن الفيسبوك وغيره من وسائل الاتصال أسهمت في نشر الأقصوصة وانتشار قراءتها وخلق نقاد جدد، أصدق أنباء من الكتب.. فتحية لمخترع الفيسبوك.
و«الأقصوصة» أو «القصة القصيرة جداً»، هي فن أدبي له جذوره العربية العريقة، المتمثلة بما عرف في تراثنا القديم بـ«التوقيعات»، ومثال ذلك ما كتبه الصاحب بن عباد، حين رفع إليه بعضهم رقعة يذكر أن بعض أعدائه يدخل داره، فيسترق السمع، فوقّع فيها: «دارنا هذه خان، يدخلها مَنْ وفى، ومن خان». ويعتبر «المثل» من جذور الأقصوصة، ومن هذه الأمثال نذكر:
«تدخل في ما لا يعنيه، فلقي ما لا يرضيه».
وفي باب «الحكمة» بصفتها أحد جذور «الأقصوصة»، نذكر هذه العبارة:
«كان يعاتب أصدقاءه في كل الأمور، فلم يعد يلقى الذي سيعاتبه».
و«القول المأثور»، كقول كامل الشناوي:»الحب جحيم يُطاق، والحياة بدون حب نعيم لا يطُاق». و»الوصية» مثل الوصايا الكنعانية السبع ومنها نذكر:»لا تسرق، كي لا تسرق ممتلكاتك». «لا تكذب، فما يبدأ بالكذب، ينتهي بالسوء». «لاتزن، كي لا يشتهي غيرُك امرأتَك». وكذلك «الرسالة المقتضبة» مثل الرسالة المقتضبة من الطفلة اليمنية إلى الرئيس اليمني المخلوع: «انت ضعيف أمام قدرة الشعب». و»المقامات» مثل التي كان بديع الزمان الهمذاني يبتدئها بقوله: «حدثني عيسى بن هشام قال: …»
وكل ما سبق ذكره هو فنون أدبية نثرية كانت لها قيمة كبيرة بين سائر فنون الأدب العربي، ويعتبر أساساً لهذا الفن الجديد «الأقصوصة»، التي هي فن أدبي مختصر بعبارة مكثفة.. وفي اعتقادي أنها أفضل وسيلة فنية أدبية لتصوير الموقف الذي يتخذه شخص ما، تجاه ما يتعرض له من مفاجأة، وذلك باختصار شديد.. ولقد فضلت تسمية هذا النوع من الإبداع الأدبي بـ«الأقصوصة»، لأن اسم «قصة قصيرة جداً»، قد نقلناه من الغرب (شورت شورت ستوري) أو (فري شورت ستوري) هو طويل جداً، مقارنة بحجم الوحدة من هذا الفن الجديد، ثم إن كلمة «جداً» هي كلمة ضعيفة في اللغة.. فالذي – مثلاً – يقول لك: «أحبك جداً» إنما يؤكد، ما هو غير متأكد منه.. وذلك مثل الذي لا يتأكد من عزيمة الرجال، فيقول: «الرجال الرجال».
و«الأقصوصة» هي عمل فني يختلف عن «القصة القصيرة»، كونه لا يهتم كثيراً بتصوير المكان والزمان والملابس والديكورات والعلاقات العامة للشخصيات، أو للشخصية، ولا لباقي المؤثرات السمعية والبصرية التي تعتبر من معالم القصة القصيرة، أو الرواية، ولكن الأقصوصة تركز على «الحدث، والموقف منه»، أو «الفعل ورد الفعل». وهي تحتفظ لنفسها من مواصفات الرواية والقصة بأنها تقدم تنويراً على قضية ما، أو تحمل فكرة ما، أو تطلق سخرية من موقف ما، وأنها تتسم بلغة بليغة، ومتينة مركزة، ذات شكل ومضمون متوازنين.
وتعتبر «المفارقة» أو «عكس التوقع» من أهم مميزات الأقصوصة.. وكذلك «السخرية»، التي تتضح في رد الفعل. وذلك ما يتضح في أقصوصتي بعنوان «موقف» وهذا نصها:
«كان رجلاً مناضلاً، وله موقف، وعندما اعتلى المنصة، صار مغروراً يبحث له عن مقعد!».
في هذه الأقصوصة، لم يصور القاص عُمْرَ الرجل ولا ملابسَه ولا المكان ولا الزمان، الذي تتحرك فيه الشخصية، ولم يتطرق إلى ما يعتمل في نفسيته، بل ركز على قضية واحدة هي«الحدث، والموقف منه». وهو «الموقف، والمقعد».. الفعل، وردُّ الفعل، والتصوير هنا مكثف..الكاتب يقدم الأقصوصة للقارئ على شكل لقمة سائغة سريعة التناول والبلع.. إذا جاز التعبير..
وإذا كانت الرواية وليمة كبيرة، والقصة شطيرة طازجة، فإن الأقصوصة لقمة سائغة، وإذا كانت الرواية حديقة غناء، والقصة سلة زهور، فإن الأقصوصة وردة تتفتح.. وإذا كانت الرواية معركة مترامية الأطراف، والقصة موقعة مسلحة، فإن الأقصوصة هي طلقة واحدة.. وهذا الفرق في التعبير الفني لا ينقص من قيمة أي من هذه الإبداعات، أو الفنون الثلاثة، إن لم تكن فناً أدبياً من عائلة واحدة.
صحيح أن كثيرين استسهلوا هذا الفن الأدبي، قراءة، وكتابة، إذ أن بعض الشباب والصبايا الذين لم يقرأوا فنون الأدب، ولم يعرفوا جذوره، ولا مواصفاته، صاروا يستسهلون كتابة «الأقصوصة» وهم يلعبون بجهاز الخلوي، أو وهن يحضِّرن طعام الغداء..مجرد تسلية.. ثم صاروا ينتظمون في جماعات، كل منهم يكتب للآخر «أعجبني»، فيكتب له الآخر «أعجبني» .. مهما كانت جمالية الأقصوصة، وفنيتها، وهدفها المنشود، أو مدى تفاهتها.
ولكن الزمن كفيل بتنخيل الكتابات البسيطة، التي هي للأسف، أغلب ما ينشر من هذا الفن، خاصة على وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة. وفي كل الأحوال، لا شك أن هناك أدباً جميلاً يسمى «الأقصوصة» قد بدأ يترسخ وينتشر.