قصص قصيرة – أسماء راغب نوار

الجسرة – خاص

رحمة رأس المال

مررت على محل بقالة كبير (سوبر ماركت) وأنا في طريقي إلى العمل صباح اليوم لأشتري بعض لوازم موظف رابض في مكتبه حتى غروب الشمس- لوازم من طعام وشراب لتسد جوعه أو لتُسرِّي عليه مثل الأطفال. دخلت المحل الذي أُعتبر زبونة دائمة له لأجده مكتظًا بالزبائن الذين يقفون وحدهم من دون مساعدة من الصِبْيَة الذين دائمًا ما يقفون لتلبية طلبات الزبائن فقد بدا المحل خاليًا منهم وبدا صاحب المحل مشغولًا على مقعده الدائم لتحصيل النقود وكان الزبائن مصطفين أمامه انتظارًا لإنهاء مكالمة كان يسجل منها بالكتابة طلبات زبون آخر والأكثر من ذلك أنه قام من مقامه ليتفحص بضاعته للرد على استفسارات الطالب، فبدا وكأنه غارق في شبر ماء، فقلت في نفسي فلأساعد نفسي بنفسي وأتجول في المحل لألتقطَ ما أريد فإذا بي أجد صبيان المحل البالغ عددهم أربعة وقد افترشوا أحد أركان المحل ليتناولوا إفطارهم وهم يتضاحكون بل ويقهقهون فسررت بسرورهم؛ لكن ما استوقفني هو رحمة صاحب المحل وكرم أخلاقه.

يعني ايه إحساس؟

لما قلت لابن أختي ابن السادسة، الذي اعتاد أن يقابلني بالأحضان والضرب معًا: “لقد أصبحت أتألم من ضربك وأكاد ألا أحتمله؛ لأنك كبِرت ونمت عضلاتك وثقُلت يداك ولولا إحساسي بأن ضربك هذا نوعٌ من المحبة وأنه أسلوبك في التعبير عن هذا الحب لتضايقت منك وانصرفت عنك، فأرجو منك أن تترفق بي بألا تستخدم هذا الأسلوب معي”.
سكت قليلًا وقال: “ايه الإحساس ده..يعني ايه إحساس؟!”.
فأجبتُه وأنا مبتسمة: “إنه من نِعْم الله علينا، فكما أنعم الله علينا بعقلٍ نفكر به، وهب لنا إحساسًا نستشعر به بواطن الأمور، حتى وإن كانت تتنافى مع ظواهرها، كإحساسي الآن مثلًا بأن ضربك لي، الذي يؤلمني، يوافق محبتك التي تسعدني، أليس كذلك؟”.

فرد عليّ: “صح.. بس أنا عايز يبقى عندي إحساس!”

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

لما طلبت إلى الساعي في العمل ذات يوم أن يحضر لي مذكرة داخلية من إدارة أخرى رد علي بحدة وقال: “حاضر!”، ولما أعدت عليه الطلب بعد ساعة رد عليَّ وقال: “حاضر!” أيضًا لكن بنبرة أكثر حدة أدهشت من كان شاهدًا على الموقف من الزملاء وأدهشتني قبلهم، لكن ما كان مني سوى السكوت والتفكير في دواعي رد فعله هذا على الرغم من قلة طلباتي منه لأنني أفضل قضاء أغلب حوائجي بنفسي كنوع من التريض أحيانًا، وكنوعٍ من التسريع لقضاء أموري بدلًا من انتظار فراغه أحيانًا أخرى، ودارت في عقلي هذه المناظرة.

فقلت في نفسي أليس بإمكاني لفت نظره بطريقة حادة أو حتى توبيخه أو أن أشكوه لمديره على الأقل؛ فرد علي الطرف الآخر من المناظرة وقال في عقلي: أليس من حقه التضجر من كثرة طلبات الموظفين، فمنهم من لا يكتفي بإعداده للمشروبات وتلبيته للطلبات الخارجية بل يطلب منه مناولته حتى الورق المطبوع من فوق الطابعة في الوقت الذي لا تتجاوز المسافة بينه وبين الطابعة أمتارًا معدودة!

فانتهيت بعد هذه المناظرة إلى أن أسامحه وألتمس له العذر، فنسيت ما حدث بكل معنى الكلمة، حتى فوجئت به يأتيني على استحياء ويقول لي نصًّا: “أرجو أن تتقبلي اعتذاري على اللي صدر مني”، فقلت له: “حصل خير، أكيد لا تقصد، فضغوط العمل تقلل احتمالنا”.

تأملت اعتذاره الذي لمست فيه الصدق وقلت في نفسي: “فعلًا.. هل جزاء الإحسان إلاحسان؟!”، فقد أحسنتُ إليه بالعفو فأحسن إلي بالاعتذار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى