قصص قصيرة جدًا – زينب هداجي

الجسرة – خاص
جثة في ذاكرتي
تبث الاذاعة المحلية خبر وفاة كهل مطلق يستعد لزواجه الثّاني في حادث مروع. كان في طريقه لاقتناء خاتم الزواج… تتناقل كل وسائل الإعلام هذا الخبر.
تجلس وحيدة على حافة الأريكة تفكر فيه، تدخن في هدوء وتداعب خصيلات شعرها الملتحمة بالدّخان والضوء. تسمع ذلك الخبر ثم تغير المحطة لتسمعهه في محطة أخرى… تنتابها هستيريا من الضحك الملوّث بالدموع. تتعرى لتغمر المكان بسحرها المنمق بأيقونات دموية نازفة. ترتعد بردا وتلتهب حرا. تتحول أظافرها إلى خناجر حادة. تستحيل عيناها قذائف لهبيّة… تحاول كبت سيلها الجارف المندفع نحوه…تتعرق بشدّة…
تتسلل الشمس إلى جفنيها المغمضين. تلبس ثوبها المخملي، تفتح الراديو ينطلق منه صوت المنشط في الإذاعة المحلية يعلن فيه تكذيب موت ذلك الكهل في حادث مروّع.
..
شخص مهم
طلب منه أن يلتقط له صورة مع “الشخص المهم” الذي تكبد من أجل الوصول إليه عناء التضارب بالمناكب والأرجل.
ابتسم و وضع يده على كتف “المهم”.
عندما فتح سجل الصور بهاتفه الذكي لم يجد الصورة.
طفولة
الطفل الباكي يسرد خيباته على مسرح وجهه الرّجولي… يلطخ شفتيه بالشكلاطة ولا يستطيع أن يضع اللّقمة في فمه… يغضب غضب العاجز. تضع اللّقمة في فمه… تزيل بقع الشكلاطة بمنديل يدّخر رائحتها… يبتلع اللقمة بصعوبة… يمسك المنديل بكل قواه… ينظر إلى يدها وهي تتوارى خلف الشمس… تحرق الشمس عينيه.
وجع طازج
عندما تتناغم أصوات المغنين في إحدى المطاعم الفاخرة المعتمرة لسقف الثراء، تصبح كلماتنا مجرّد أحبار تختنق في جوف سمكة ملوّثة بالنفط وقابعة في جهاز التبريد منذ أيام إلاّ أن صاحب المطعم قد قال لرواده بأنّها من أجود الأنواع و أنّها من صيد اليوم…
في نهج فرعيّ ما يقف رجل يرتدي حرقته صدار مهترئ … يدخّن، يسعل، يبصق على أثر خطواته المتعثرة في وحل الطّريق… ثم يتوارى في ضباب الأفق…
طيران
تغسل الملابس والغضب يهز مفاصلها… تفرك قميصا على أنغام رضيعها الجائع… يتطاير رذاذ الماء في كل أرجاء المكان. كومة الملابس تتضخم كلما أتت عليها بالغسيل… تتواتر هذه الحركة الميكانيكية والدولاب يدور في رأسها، يدور بسرعة جنونية إلى أن ينفجر فجأة، فتسقط الأم أرضا و يحسن الرضيع المشي وهو في سنّ الستّة أشهر، يمر على جثة أمّه جاريا ويغادر البيت
تذكير
على جدار الفيسبوك الذي يكاد يتقيأ الجميع عليه ، أنزل شاب تآكلت ملامحه من البلاهة، صورة له وهو مقرفص في ساحة أحد الكليات و أرفقها بالتعليق التالي :” أحلى كلية وأعز أصحاب” … تخرج الشاب و عاد إلى قريته المقفرة و نسيه “أحلى الأصحاب” و ” أعز الكليات” و لم تذكره سوى تلك الصورة في الفيسبوك التي أعيد نشرها بمناسبة وفاته… [ سبب الوفاة مجهول، عفوا، ليس مجهولا لكن يجب تجاهله]
*المزود
جلس إلى مكتبه ذي التصميم النمساوي الفاخر. خلع سترته الإطالية لأنه شعر بالحر بعد مكالمة مع الشخص مهم… شخص الذي كسى هيكله العظمي باللحم… نظر إلى صورة زوجته ذات الأنف الأرستقراطي الشامخ… وضعها في موقع لايمكن أن يتجاهله الوافدين إلى مكتبه.
تنفس بعمق وابتلعته الهواجس… تبادر إلى سمعه صوت يألفه جيدا… صوت أحد أبناء حيه القديم. يذكر جيدا عذوبة ذلك الصوت الذي يصدح بإيقاعات “المزود” في ليالي الشتاء بينما يحتسون الجعة تحت الحائط. فتح النافذة فصار الصوت أعلى. لم يكن صوت صديقه القديم . كان صوت فنان شعبي مشهور. تعرّق أكثر. فك أزرار القميص ثم نزعه تماما… تغلغل إيقاع المزود في مساماته. أمسكته الايقاعات من أطرافه و راحت تحركها بنسق سريع. أصوات خلانه القدامى تعلو مع صوت المغني. جواهر الحلاقة الزنجية صاحبة المؤخرة المكورة تمر أمامه. رائحة “الشكشوكة”** تنفذ إلى مكتبه.
رن الهاتف بإلحاح… لم يرد… دخلت السكرتيرة، تحدثت إليه لم يرد عليها. “الشكشوكة ” أصبحت جاهزة للأكل.
* آلة موسيقية شعبية تونسية
**أكلة شعبية تونسية تتكون من ملاق وخضار