قلم بالأبيض والأسود – حسن لشهب

كانت ليلة جليدية غمر فيها الصقيع المدينة كلها، وتسربت البرودة للجسد المسجى تحت أغطية صوفية لم تفلح ألوانها القوية في بعث ولو نزر يسير من الدفء إلى أطرافه…
شعر بوحدة قاتلة…
غزاه شوق البلد، والحنين إلى ضوء شمس ترفع على الدوام راية العصيان في وجه الظلمة… لم يعد أحد هناك… لم تكن أول مرة يهزه الشوق إلى هناك… كل يوم يقبع في غرفته، يلوك وجعه ويحتضن قلمه بصمت…
كلهم ماتوا !! ومن بقي حزم حقائبه وتاه في أزقة بعضها مضـاء، وبعضهـا الآخـر غلفتـه الظلمة… انصرفوا حالمين غرقوا في لجج النور والعتمة.
هو عناد عمر طويلا… لن يعود منكسرا، ومنهزما… يلزمه مزيد من الكفاح… هكذا كان يقول كل مرة.
قبع في بيته الباريسي الصقيعي… يغزل كلاما من ماض وذكريات في الذهن دائمة الحضور. راكم الصفحات في الأدراج… فكر تكلس… وطموح التبس… وغابت إشراقة الأحلام على مدى السنين، على إيقاع خيبات لا تنتهي، وقلم يغني لوعة اليتم والتيه… غدا كل شيء مبهما. الجرح اندمل وخفت حدة الشعور بالظلم…
ترك الحياة تتوالى لحظاتها كما شاء لها القدر أو الحظ… لا يعلم، وغاب الهدوء والسكينة… وحضر التوتر والحسرة وفي سماء أيامه تسبح سحابات الملل والوحشة.
قد يكون خارج الأوراق والأقلام فضاء آخر وعالم كبير، مازال يخترقه مساران، الأبيض والأسود وآثار خطوات متفاوتة الأشكال والألوان والأحجام… بعضها داكن وبعضها الآخر ناصع البياض… ربما صارت الأحوال بالبلد الآن أكثر وضوحا … وتلك فرصة أخرى للحياة… هكذا حدث نفسه…
هي إذن لحظة العودة إلى البيت الكبير… أطل من النافذة، ندف الثلج كثيفة لها رائحة الموت، أضواء المصابيح باهتة… وفقد كل نصب ملامحه…
نظر في كل الاتجاهات… لا شيء غير ضوء فضي كاب يغلف الأشياء…
في هذه الأماكن تموت الشمس…
يوم آخر يأفل، حياتنا صارت مجرد لحظات تمر عابرة في سماء الوجود، على إيقاع يغري بلمعانه حينا، ويبث في الذات شعورا بالكآبة متى حل الظلام…
ليكن ما يكون: اليوم كمد وغدا عود ورحلة إلى البلد…
حزم الحقائب ودس قلمه في جيب سترته… أغمض عينيه على أمل أن يكون البيت الكبير لا زال يحتضن الروائح وأصوات الأطفال وضوء الحياة.