كاترين مِيّيه تُقدّم نينار إسبر في معرضها

«دائرة الإشارات» عنوان اختارته الفنانة نينار إسبر لمعرضها الجديد في «غاليري إيمان فارس» في الحيّ اللاتيني في باريس» (من 30 آذار- مارس حتى 12 أيار- مايو)، وفيه تعرض إسبر مجموعة من أعمالها بين رسوم ومنحوتات. ويأتي «دائرة الإشارات» بعد أكثر من اثنين وثلاثين معرضاً جماعياً شاركت فيها نينار من نيويورك إلى بانكوك والقاهرة وعمّان وبروكسيل واليونان ومتحف لندن وباريس وعدد آخر من العواصم الفنّية، إضافة الى سبعة معارض فردية، علما أنها حاضرة في الساحة الفنية الفرنسية منذ نحو عقدين.
واللافت في هذا المعرض الكلمة التي كتبتها الروائية والناقدة الفرنسية كاترين مييه، مديرة تحرير «آرت برس» والمشرفة على المعارض الباريسية، وجاء فيها:
«عندما ننظر إلى الملاءات البيضاء الواسعة التي رسمَت عليها نينار إسبر ما يبدو أنه أطيافٌ (لغائبين)- هكذا نظنّها لفرط ارتجاحها وغياب الدقّة في خطوطها، وإلغازها- نظنّ أنّ لا مفرّ من تذكّر الأسطورة حول فتاة «ديبوتاد» المغرَمة: إذ حين توجّب أن يمضي الرجل الذي أغرمت به في سفر طويل، وأرادت أن تحتفظ بصورته، خطّت على الجدار حدود ظلّه.
إذا كانت خطوط نينار تلتقي مع جذور فنّ الرسم، فهي، في الوقت نفسه، تنزاح عنها في صورة بالغة الدلالة. فما أرادت رسومُها أن تمسك به ليس مجرّد ظلال، بل هي أجساد حقيقية، أجساد أصدقاء تورّطوا في اللعبة وتمدّدوا على الملاءة، بينما يدها تُمسِك بقلم الألوان وترسم الأطياف. ما تسمح به اللوحة من تخمين تردّد القلم، واكتشاف المحاولات المتكرّرة، تشهد كذلك على القرب بين الفنّانة و «موديلاتها» كما تشهد على نوع من الورع الذي تعبّر عنه الصورة.
لكنّ الناظِر الذي تحيِّره الرسوم، لا يلبث أن يكتشف أنّ الأشكال المرسومة ليست أشكال الأجساد، بل أشكال الفراغ أو المساحة القائمة في ما بينها. وهو فراغٌ يتجسّد بساحةٍ لونيّة موحَّدة. هكذا يبدو لنا أنّ غاية الفنّانة لم تكن الحفاظ على الأثر غير الكامل لأجساد الشّخصيّات، بل هو على العكس، توكيد الفراغ الذي تخلفه، كما يحدث لنا حين يطول غيابنا عن شخصٍ ما، لا نعود نتذكّر ملامحه بقدر ما نتذكّر الأشياء التي أحاطَت به والضّوء الذي غمر وجهه.
وينبغي أن نعرف أنّ تنفيذ الرسم قد تمّ والملاءة مفروشةٌ على الأرض، والأشخاص النّماذج يتمدّدون فوقها. إذاً لم يكن وضعهم وضع أشخاص يتهيّأون للتحرّك، بل وضع أجساد في حالة استرخاء عفوي. وفي مثل هذه الوضعيّة، مهما تقاربت الأجساد، فإنّ الأفكار تتباعَد. حتّى العشّاق الذين يتشاركون السّرير الواحد يعرفون، أنّ كلاًّ منهم سيبتعد عن الآخر حين يدخل في الحلم.
الفيديو الذي تعرضه الفنّانة، يشكّل، في نظري، مفتاح هذه الأعمال. يُرينا الفيديو جسدين، والأحرى سيقان جسدين، لامرأة ورجلٍ، يتمدّدان في وضعيّة تشبه وضعيّة «الشّخصين» على الملاءات، مع فارق أنّهما يتمدّدان على بلاط أزرق. شخصان من دون أي حركة؛ ولكن يتوجّب علينا الانتباه جيّداً لنكتشف أنّ الماء ينبجس من الأرض تحتهما ويُغرِق المسافةَ القائمةَ بينهما، والمسافة بين ساقَي كلٍّ منهما.
نينار إسبر وُلِدَت في لبنان، الوطن الذي غادَرَتْه إلى فرنسا عندما كانت في سنّ المراهقة. لذلك هي تعرف جيّداً ما معنى المغادرة. وهي اليوم توزِّع وقتَها وتتوزّع بين الموطنين. هذان الجسدان هما بمثابة قارّتين يجمعهما هذا المدى المائيّ ويفرّقهما في آنٍ واحد. أمّا الرسوم على الورق، فهي تُكمل المعرض. كلّ رسمٍ منها تمّ تنفيذه في وقتٍ محدَّد، ابتداء ممّا تحقّق في ساعةٍ واحدة، وصولاً إلى ما تحقق في ثلاث عشرة ساعة. مجموع هذه الرسوم يحمل عنوان «أن نرسمَ خطّاً». وكلٌّ منها نتاج حركة بسيطة تتولّد منها تبلْوُراتٌ تشبه ما يكوِّن «حجارة الحلم». فكما تغزو المياه المساحات بين الضّفاف، وكما يتيح اللون رؤية الفراغ الذي لا نريد أن نراه بيننا وبين الآخرين، توجّب أن يملأ الخيالُ الفراغَ الذي يُحدِثُه الفراق، خيال الانتظار».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى