كتابات وكتاب يروون سوريا من الداخل في مشاهد وشهادات

محمد الحمامصي
نشرت النصوص التي جمعت في هذا الكتاب “سوريا من الداخل.. مشاهد وشهادات” باللغة العربية في خريف عام 2013 ومطلع عام 2014، وترجمت المترجمة لاريسا بندر معظمها إلى اللغة الالمانية حيث صدرت في كتاب أشرفت عليه وحررته بعنوان “رؤى من داخل سوريا” عن دار نشر “إيديتسيون فاوست” الالمانية، ثم أشرفت وحررت نسخته العربية بعد أن رحبت دار الجديد بنشره ليصدر أخيرا.
تعود النصوص إلى نخبة من الكاتبات والكتاب السوريين كانوا داخل سوريا حين كتبوها، واليوم بعد نحو سنتين على كتابتها غادر معظم هؤلاء سوريا ويعيشون في الخارج، وتصف النصوص الأوضاع داخل سوريا من خلال رؤاهم أو نظراتهم. من بين هؤلاء الكتابات والكاتبات خليل صويلح وخالد خليفة وخضر آغا وفواز حداد ونهاد سيريس ومنذر مصري وسمر يزبك وديمة ونوس وعمر قدور وغيرهم.
قدمت لاريسا بندر للكتاب بشهادة تشكل مدخلا مهما لنصوص الكتاب، قالت “مطلع عام 2011 فوجئ سكان الأحياء الدمشقية بكرات صغيرة تتدحرج من سفح جبل قاسيون وقد كتبت عليها كلمات كـ “حرية” و”ديمقراطية”، وكانت أغنية “يلا ارحل يا بشار” لإبراهيم قاشوش تصدح من حاويات القمامة، فيما كانت بالونات هوائية ترتفع في الفضاء وحالما يصيبها رجال الأمن بطلقات بنادقهم تنتشر منها قصاصات صغيرة كتبت عليها كلمة “حرية” أيضا”. هكذا بدأت. كان السوريين يغنون ويرقصون في الشوارع في طول البلاد وعرضها، وكان الشباب والصبايا يقدمون الورود إلى الجنود السوريين. لقد خرج السوريون في عموم البلاد في تظاهرات احتجاجية للمرة الأولى منذ عقود، ففي مدينة حماه وحدها على سبيل المثل خرج نصف مليون إنسان إلي الشوارع في شهر تموز/ يوليو من عام 2011″.
وأضافت “حرية” و”ديموقراطية” و”الشعب السوري ما بينذل” شعارات تبنتها الحركة الاحتجاجية في سوريا التي انطلقت بوحي من ثورات الربيع العربي، إذ عمت يومها التظاهرات تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان العربية. لقد انطلقت هذه الحركة في عموم سوريا متجاوزة حاجز الخوف لتواجه نظام البعث الديكتاتوري الذي يتربع على كاهل السوريين منذ خمسة عقود، منها أربعة عقود وأكثر هي حكم آل الاسد وحدهم. وبات جليا أن الشعب السوري خرج إلى الشوارع ليكافح من أجل تأسيس دولة جديدة قائمة على الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان”.
وأوضحت “اليوم بعد خمس سنوات من انطلاق الحركة الاحتجاجية تقدر أعداد القتلى بأكثر من 250 ألف شخص، إضافة إلى الملايين من الجرحى والمصابين بعاهات جسدية ونفسية، فيما يجد أكثر من نصف الشعب السوري نفسه مشردا، منهم خمسة ملايين باتوا لاجئين في دول الجوار وأوروبا، ومن بقي داخل البلاد يخاطر بحياته ويعرض نفسه للموت ببراميل النظام المتفجرة والصواريخ والقنابل والغازات السامة عطفا على سياسة التجويع الممنهجة التى يتبعها نظام آل الأسد تجاه المناطق التى خرجت عن سيطرته.
وبدوره أنشأ تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) سلطة وحشية قروسطية في بعض أجزاء سوريا تقوم على إرهاب الناس من خلال تفسير متطرف للدين لا مثيل له في التاريخ. علاوة على ذلك تموت أعداد لا تعد ولا تحصى من السوريين جراء نقص المواد الطبية وعدم توافر أماكن كافية لإسعاف المرضى والمصابين ومعالجتهم لأن آلاف الأطباء والممرضين السوريين قتلوا أو فروا إلى الخارج”.
ورأت لاريسا بندر أن سوريا دمرت بالكامل “الآلاف من النشطاء ممن كانوا وقود الحركة الاحتجاجية ومحركيها الأوائل الذين أشاعوا الأمل بأفكارهم الخلاقة لم يعودوا موجودين، فغالبيتهم إما قتلوا جراء القصف أو ماتوا تحت التعذيب أو مازالوا في السجون والمعتقلات أو فروا خارج البلاد
وقالت “يصعب وصف الكارثة الرهيبة التى حلت بالسوريين أو الإحاطة بها من خلال الكلمات، من هنا يمكن القول إن هذا الكتاب الذى وضع في الأصل على نية القارئ الألماني، لا يسعى إلى تحليل الصراع في سوريا أو تفسيره بل هدفه الأول نقل ما يجري في الداخل إلى الخارج أي نقل تجارب ووجهات نظر مثقفات ومثقفين سوريين عايشوا تجربة الحركة الاحتجاجية وفي ما بعد تجربة دمار وتدمير بلادهم إلى الخارج: كيف واجه هؤلاء مصائرهم؟ وكيف تحولت آمالهم في التغيير وفي مستقبل أفضل إلى كوابيس وحالات من الكآبة؟ ولحسن الحظ رغم كل هذا رغم قساوته لم يحبطهم بالكامل.
وتسأل لاريسا بندر أسئلة تفرض نفسها في هذا المقام فرضا هي: ماذا يعني لكاتب يشعر بأن الكتابة لم يعد لها معنى أن يكتب عما يجري في بلاده؟ ما هي المشاعر التي يمكن أن تستولي على مثقف يساهم في هذا التغيير التاريخي في وطنه ويكون شاهدا عليه في خلال ثلاث سنوات عاشها متخفيا وملاحقا ثم ليجد نفسه في نهايه المطالف مجبرا على مغادرته؟ ماذا نتوقع من شخص فقد كل أفراد عائلته بقنبلة محتهم جميعا من الوجود؟ كيف هي الحياة في الأحياء “الآمنة” التى تقطعها وتعزلها العشرات من الحواجز ونقاط التفتيش بينما تشهد المناطق المتاخمة لها معارك وقتلا وقصفا يطاول السكان المدنيين الآمنين؟ عن أي خبرات ستتحدث امرأة اعتقلت مرتين على يد أجهزة الاستخبارات؟
وأوضحت إن معظم الاسهامات التى يتضمنها هذا الكتاب تدور حول موضوعين رئيسيين: فهي تصف وحشية القمع وآلياته التي قام عليها نظام البعث وآل الاسد في العقود الاخيرة من ناحية، وتعكس من ناحية أخرى دهشة أصحاب هذه الاسهامات واستغرابهم من أن يقوم جيش دولة نظامي في القرن الحادي والعشرين بمساعدة ميليشيات داخلية وخارجية من لبنان وإيران والعراق بقتل شعبه وتهجيره من أرضه على مرأى ومسمع المجتمع الدولي الذي لا يبدي أي حراك؟! لقد اهتز إيمان معظم السوريين واقتناعهم بالقيم التي ينادي بها الغرب كالديموقراطية وحقوق الانسان.
إن سوريا تشهد اليوم حربا بالوكالة على جبهات وحدود جديدة تمتد على طول البلاد وعرضها: “السنة – الشيعة”، “السعودية – إيران”، “السعودية – قطر”، “تركيا – الأكراد”، “الولايات المتحدة – روسيا”، “مسلمون معتدلون – جهاديون”. والضحايا بالطبع هم السوريون الذين انتفضوا على نظام ديكتاتوري وحشي، هم السوريون الذين خرجوا إلى الشوارع من أجل الديموقراطية، هؤلاء السوريون بسبب هذه الحرب بالوكالة انتزع منهم حق تقرير مستقبلهم بأيديهم وجرى تحريف ما قاموا من أجله”.
ولفتت لاريسا بندر إلى أن الأمر ليس هذا فحسب بل إن تقوية الجهاديين وخصوصا تنظيم “داعش” يرمي بالدرجة الأولى إلى إجبار المجتمع الدولي على التعامل مع نظام آل الاسد، إن لم يكن يسعى إلى تقوية هذا النظام أصلا ويذهب بعض الساسة في الغرب، وكذلك بعض الباحثين المتخصصين في شئون الشرق الأوسط إلى أبعد من ذلك: يذهبون إلى اعتبار الأسد أهون الشرين مقارنة بـ “داعش” وهو ما يمكن أن يعني ضربة قاصمة لسعي الشعب السوري للتحرر والانعتاق من هذا النظام الديكتاتوري.
وأكدت أن سياسة النظام السوري وداعميه هي التى أدت إلى هذا الوضع الكارثي، فالسوريون لا يفقدون في هذه الحرب بيوتهم ومساكنهم وحقولهم وكل ما يمتلكون فحسب، بل يفقدون هويتهم، ماضيهم ومستقبلهم أيضا، كذلك ينهار بسبب الحرب ذالك التعايش الهش بين الإثنيات والقوميات وبين اتباع الديانات والطوائف، وهو التعايش الذي يمثل جزءا من الهوية السورية. أضف ان جيلا أو جيلين من الأطفال السوريين يفقدون أي أمل في التعليم”.
***
• شهادة عامر مطر
جثة الكاميرا وجدت.. ماذا عن جثة أخي؟
بقيت جثة واحدة ممددة هناك لم يستطع أحد الوصول إليها بسبب حظر التجوال الذي فرضه تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام على سيارات الإسعاف في مكان تفجير السيارة المفخخة في أثناء مع لواء أحفاد الرسول لفرض السيطرة على مدينة الرقة.
جثة واحدة إن لم تكن لأخي فستكون لأخ آخر، وأمي تنتظر خبرا عن ابنها الصغير المفقود الذي ذهب لتصوير المعركة ولم يعد إلى بيتها. قررت حينها الوقوف على شرفة المنزل والبكاء ليرى الله حزنها وينقذه.
أمي تبذل الدموع لله وتدعو لابنها بصوت عال “يارب” ليسمعها الله جيدا من دون وصول خبر واحد عن الجثة المرمية هناك .
عثر طاقم الإسعاف على جثة محترقة لكاميرته، ما زاد اليقين أن الجثة المبتورة الأطراف لمحمد نور. جثة واحدة لم نعرفها حتى الآن تكفي للبكاء وتصديق رحيله، لكن القصة تغيرت عند الفجر بعد سماح عناصر الدولة الاسلامية بسحب الجثة التي لم تكن له أيضا. حان وقت برادات المشافي وسحب المستطيلات المعدنية الباردة التي ينتظر فيها الأموات من يعرفهم. أيضا لم نجده ممددا هناك!.. ومازالت أمي تنظر إلى الله وتتمنى أن ينظر إليها هو أيضا.
في دولة الخلافة لا يموت الناس دفعة واحدة ولا يدفنون في قبر واحد، ولا تخرج رائحة جثثهم من براد واحد. بعد البراد سمعنا أن بعض الاشلاء مجموعة في مكان التفجير، فذهبت خالتي لأن أمي لم تستطع البحث بين الأشلاء عن أصابع قد تعرفها أو جثة ترتدي قميصه الكاريه، لكنها لم تجد ما يدلها عليه .
رائحة الدم علقت على أصابعها، وفي رئتيها آثار الدم ينز من الدم.. التنفس صعب في دولة الخلافة وقص الأظافر واجب بعد كل سيارة مفخخة. لم نجد غير جثة الكاميرا! هل يجوز دفن الآلات في دولة خلافتك يا الله؟ دم المسلم على المسلم حلال في خلافتك والطريق إليك سبحانك قريبة وسريعة بفضل السيارات المفخخة، خلال يوم واحد وصلت عشرات الأخبار المتناقضة أنه تحول إلى أشلاء أو اعتقلته الدولة الاسلامية، لأنه كان في مكان أعداء الله “أحفاد الرسول” الذين تحاربهم “الدولة” وفجرت سيارة مفخخة في مقرهم عند محطة القطار في الرقة .
النزاع بين “الاحفاد” و”الدولة” بدأ قبل أسابيع ليحاول كل منهما فرض سيطرته على المدينة، وعلى خيراتها الزراعية والتجارية والنفطية من دون تدخل المجتمع في هذا الصراع المسلح، إلا من خلال تظاهرة تطالب بإيقافه أو بإخراجه من رقة المدينة، فتعرضت لإطلاق الرصاص من الدولة، وتظاهرة أخرى يوم التفجير تطالب الدولة الاسلامية بالسماح لطاقم الإسعاف بإخراج جثث القتلى، لكنها ردت على المتظاهرين بالرصاص وبقذائف الآر بي جي .
لم تخرج أي تظاهرة في المدينة منذ تلك التظاهرة حتى اليوم لفرط الخوف من الخطف والقتل اللذين أرهبت بهما الدولة الإسلامية المجتمع في الرقة، ودفعت بعض النشطاء فيها إلى تشبيه مدينتهم بمثلث برمودا بعد اختفاء الأب باولو ومجموعة من الصحافيين الأجانب فيها إضافة إلى خطف عدد كبير من أبناء المدينة المدنيين والعسكريين أيضا .
الدولة الاسلامية تسيطر على كل شئء وعلقت علمها الأسود على سارية المدينة وأعادت غطاء الخوف على قلوب الناس، فالبعض يخاف اليوم من الهاتف ومن الجيران .
محمد نور الذي فقدناه بعد التفجير قبل أيام اعتقلته الدولة الاسلامية في العراق والشام في أواسط يوليو الماضي “2013” لأنه كان أمام مقرها مع كاميرته في أثناء احتجاج سيدة على اعتقال زوجها فاحتجز في المقر وأخبرنا أن السبب عدم معرفته تأدية الصلاة!
خرج بعد أيام من مهاجع التنظيم مع مشاهدات تشبه مشاهدات من دخلوا إلى سجون الاستخبارية السورية من ناحية التعذيب، وطريقة التعامل مع المساجين، ومحمد نور مطر ناشط إعلامي من مدينة الرقة من مواليد 1993 يعمل مع مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية، له فيلم قصير عنوانه “سقط الكابوس هنا” وقد عرض أخيرا على تلفزيون فرانس 24 وهو يحكي قصة سقوط صاروخ سكود على الرقة، ورحلة البحث عن الضحايا لاحقا وله فيلم عن تحرير مدينة الرقة قيد الإنجاز كذلك عمل على مجموعة تقارير صحافية عن الرقة .
اليوم تسمع عبارات الندم في الرقة يرددها حتى النشطاء من نتائج الثورة، في مدينة تخلصت من سيطرة نظام الأسد قبل ستة أشهر تقريبا وتخلى عنها الائتلاف الوطني السوري وكل الجهات التى كان الناس في الرقة يعتقدون أنها ستساعدهم على تسيير شئون حياتهم، وتجرحك عبارة تلمح بالعتب حتى من عائلتك التى كانت تردد “كلو في سبيل الحرية” اليوم استيقظنا على صوت أمي المحمّل بفزع برادات الموتى بعد نبأ وصول جثث جديدة إلى مستشفى الرقة الوطني، ذهبنا إلى هناك في رحلة صباحية يومية بين البرادات والأنباء الكاذبة المتناقضة .
***
• من شهادة منذر المصري
دع شعبي يحيي
كل ما أراده الشعب السوري بدءا من تظاهرة الحميدية بدمشق في 15 مارس/آذار 2011 هو “الشعب السوري ما بينذل”. وفي اليوم التالي مباشرة بمناسبة التظاهرة أمام وزارة الداخلية “حرية.. حرية” ويومها جرجر عناصر الأمن المفكر الطيب الطيب تيزيني “77 سنة” على طول ساحة المرجة وهم يركلونه بأقدامهم. كل ما كتب على جدار تلك المدرسة الابتدائية في درعا البلد بدم الطفل حمزة الخطيب وإخوته: هو “الله سوريا حرية وبس”. كل من صاح به أبناء اللاذقية بصدورهم العارية وأيديهم المرفوعة والمتشابكة: هو “سنية ومسيحية وعلوية كلنا بدنا الحرية”، فانهالوا عليهم بالرصاص الحي بل بالرصاص الميت. كل ما أنشدته تظاهرات حماه الكليمة وإدلب الأبية ودير الزور الزاهدة هو “مالنا غيرك يا الله”، كل ما هدرت به حمص ذات الحجارة السود والقلوب البيضاء في ساحة الساعة هو “الموت ولا المذلة”، كل ما كتبه على اللافتات أهالي بانياس الساحل وجبلة الأدهمية والسلمية الشاعرة ودوما الصامدة وبنش الثائرة وحاس وكفر نبل النبيلة هو “واحد واحد الشعب السوري واحد” كل ما صمتت عنه حلب الشهباء ثلاثين عاما ثم بها صراخا وموتا هو “يا الله يا الله يا لله”. كل ما خبأته بقلبها دمشق التقية الصابرة هو “أوقفوا القتل ..الشعب السوري يريد الحياة”. كل ما رتلته أرواح داريا والحولة وترميسة والقبير والبيضا ومعرة النعمان وقلعة المضيق وتسيل والشيخ “دع شعبي يحيا”.
***
• من شهادة روز ياسين حسن
عن القناصة وطعم الثأر والخيبات
في الغارة الجوية الأخيرة على الحراك لم يكن أبو زرنة في البيت كان في زيارة بيت قريب له على أطراف المنطقة. حينما بدأت الغارة هم بالهرولة إلى بيته وزوجته وأطفاله هناك في البيت، منعه مضيفوه بقسوة فذهابه وسط القصف العنيف كان ضربا من الانتحار غير المجدي، انتظر نصف ساعة أطول من دهر كانت، وقريبه يقفل باب البيت بالمفتاح. كان يلهج بالدعاء إلى الله أن يحمي أسرته، يصلي ويمسح وجهه بكفيه حين هدأت السماء عن إلقاء حممها، انطلق أبو زرنة مهرولا إلى البيت انخلعت مشايته الجلدية فخلفها وراءه وانطلق حافيا.
على الطريق كان سكان المنطقة يهرعون باتجاه الجهة التى قصفت، الجميع يهرولون باتجاه بيوتهم!، قلب أبو زرنة يتخبط مترقبا، ساقاه لا تكادان تحملان جسده النحيل، لكنهما تهرولان على نحو لا إرادي، حين وصل المنطقة التى من المفترض أن يكون بيتهم فيها لم يكن ثمة من بيت! كانت فجوة كبيرة سوداء لا غير لم يكن ثمة من جدران أو حديقة او شجرة زيتون، فجوة كبيرة سوداء وأشلاء حجارة وأجساد أشلاء حياة كانت! كان البكاء والعويل يعمان المشهد، لكن أبو زرنة وقف ساهما على أطلال بيته .
كان الناس يقتربون منه محاولين الشد من أزره يقولون له: اصبر على مصيبتك فهي ابتلاء واختبار، لكن أبو زرنة لم يبك، كان يقلب نتف الثياب محاولا تبينها، يتمتم بأنه سروال صغيره وفستان زوجته الأحمر الذي يعشقه على جسدها كل ليلة، ظل يهز رأسه ويهز، وقد ازداد هدوؤه وصمته أضعافا، حتى إن أبي قال لي في أحد اتصالاتي النادرة معه إن سليم أبو زرنة الذي أتى ليسكن في بيت أهلي بعد الحادثة أضحى شخصا غير طبيعي، عقب أبي بأنه يخاف أن يأتي يوم ويفقد عقله بالكامل.
حين عدت إلى بيت أهلي هذا الصيف همست أمي، وهي ترمق سليم أبو زرنة بألم قائلة: إنه قد يبقى ساعات على هذه الشاكلة لا يتحرك فيه عضو حتى إنه يكاد لا يرمش بعينيه، ينظر إلى الفراغ ليس إلا .ثم ضربت كفا بكف وهي تسمح دموعها وتدعو على المتسبب بذلك وهي تناظر السماء: الله يعينه فقد كل أسرته، شيء ما ممكن يتحمله عقل بشر.. الله يحميلي إياكم يا أمي .
(ميدل ايست اونلاين)