“كُحْل” – أحمد فرج الروماني
لتغريد أبو شاور.. مرآة "الحريم" في المجتمع العربي المعاصر

الجسرة – خاص
“نساء على عتبة الصبح، يُقسمن للشمس بأنهن جميلات مثلها،
صافيات مثل الغيم.
يقسِمن لبائع الكعك أن أصواتهن طيبة مثل السمسم !
ولبائع الجرائد أن سيرتهن عطرة،
ولشاعر شرقي بأنهن قافية موزونة،
ولا أحد عند الصبح يصدق النساء!!”
هكذا تستهل المبدعة الأردنية تغريد أبو شاور ثلاثيتها القصصية “كُحل” الصادرة عن وزارة الثقافة، بعد إصداريها: “نمش” و”خرز”. وهي أضمومة من الحجم المتوسط، تتضمن 27 حكاية، تحمل في مجملها أسماء بنات وأمهات..
“كُحل” تجربة سرد قصصي مختلف، برز في المشهد السردي مع طلائع الألفية الثالثة التي تؤسس لحساسيات جديدة تشتغل أساسا على قوة الفكرة والمفارقة والجرأة الكاملة في البوح والاتكاء على كل الأجناس الإبداعية الأخرى.
منذ مجموعتها القصصية الأولى “نَمَش؛ نذرت تغريد أبو شاور قلما، إن بنية مبيتة وإن بغيرما قصد، لرسم ملامح النساء، لَيس بمنطق الفكر النسائي، ولا بهدف البوح السير- ذاتي ؛ إنما من خلال النبش النفساني، مستندة في ذلك على آليات التحليل النفسي وعلم النفس الاجتماعي.
تُعد المجموعة القصصية “كُحل”، وإن كانت أقرب إلى السرد الروائي الحديث لولا إصرار المؤلفة على تصنيف عملها ضمن النوع القصصي، مرآة مُحدّبة تعكس بشكل كبير استمرارية مجتمع “الحريم” في بلداننا العربية والمغاربية. هذا المجتمع المخبوء خلف مظاهر التحرر الزائف. ولأن الكاتبة في “كُحل” لم تكن الكاتب تتغيّا إبراز هذا الجانب، فإنها أولت اهتماما أكبر في إبراز علاقة شخوصها بالفضاء، حيث تجلى ذلك في مواقف هذه الشخوص وانفعالاتها ورؤاها للوجود ككل. وهي مواقف وانفعالات ورؤى تتقاسمها بشكل أو بآخر كل هذه الشخصيات حتى وتتشابك حتى بين شخصيتين نقيضتين؛ ذلك أن للفضاء العام سلطته القاهرة في تشكيل هذا التشابك أو هذا التماس.
وقد حرصت تغريد أبو شاور في البناء الحكائي لقصصها على مجموعة من التنوعيات، مركزة على قوة الفكرة وفرادتها في عوالمها التخييلية، غير آبهة بالمكان كعنصر ظل لزمن طويل يشغل الأهمية البالغة في السرديات المعاصرة. ولعل هذا من خصوصيات الكتابات القصصية الجديدة.
من مجموعة كُحل، نقرأ في قصة “وِجدان” ما يأتي:
” يُقسم والدي بجلال شِيبه، وبالأوطان الضائعة، ويضع عمره الثقيل على كتفي، ألا يزوجني إلا من رجل يملأ يديه الاثنتين منه، رجل يحميني بعده، يكون له قَدْره بين الرجال وكفؤا لي، ويضيف أخيرا أنه يتشرف بنسبه بين رجال العائلة، ويذهب إلى حدٍ بعيد، بأنه قد “يحمِّله جميلة” بتزويجي له. يضع أبي يده على كتفي اليابس، ويشدُّ على الحروف التي تصطك بأسنانه حكمًا للعمر، أو احتكامًا لهيبة الموقف. تغوص يده المُجعدة في لحم كتفي، أتململُ تحتها محاولةً أن أتدارك صرختي التي قد تفهمها زوجات أعمامي أنها خروج عن رأيه، أو أن أسقط بصرخة تُودي بجبروتي الأنثوي الصامت أمامهن بعد كل هذه السنوات. كمال، كان خيار أبي الصادم، خياره المتأخر والأخير. كمال، ابن الحسب والنسب، اللاجئ مثلي، ابن المخيم، الذي شقته أيدي أخواته التسعة من الصخر، المتعلم مثلي، والذي يفوقني بسنوات قليلة، وأفوقه بخبرة عمرٍ كاملٍ. كمال، النسخة الملكية لعائلته، الأخ الأصغر لتسعة بنات. (..) فهو لازال يمشط شعره الناعم جهة اليمين “مش مثل المايعين شباب اليوم” تعقيبًا مرجحًا من قبل لوالدي، (..) كما يبالغ بلبس الجوارب البيض، وبنطال القماش المكوي حد السيف (..)
ما العمل أمام كل هذه الشروحات الوافية من والدي؟ وكل المقدمات المستفيضة التي ما زادت إلا من هدم كمال في مخيلتي، وبناء بيتٍ لي معه في تفكير والدي الأخير، وواقع زوجات أعمامي اللواتي ينتظرن أي بيت للوحيدة المستعصية في بنات العائلة، المتبقية، التي قد تصير نذير شؤم يتربص بسمعة العائلة.
إن المجموعة القصصية “كُحل” لتغريد أبو شاور، من بدايتها إلى نهايتها، تُعالجُ إشكالا واحدا، بقدر من ينسحب على المرأة، هنا في هذه المجموعة بحكم أن المؤلف امرأة، بقدر ما تنسحب على الرجل؛ وهو مشكل الخضوع غير العادل من طرف الفرد للجماعة، وسلطة هذه الأخيرة على الأول، وتوجهيها له دون الرجوع إليه وجس نبضه. وهو إشكالا لا زال حاضرا بقوة في أسرنا التقليدية التي تشكل الأغلبية الساحقة من أسر مجتمعاتنا العربية والمغاربية.
ورغم إبراز المؤلفة لشتى أنواع الصراع الذي يعيشه الفرد (تعيشه المرأة حسب المجموعة) داخل الأسرة/ المجتمع، إلا أنها كانت ذكية باكتفائها تسليط الضوء عليها، دون انتصار لطرف ما على حساب الآخر. لذلك؛ فإن “كحل” كمجموعة قصصية، عنوان جدير بأن يقرأ، وتجربة قصصية متفردة بقدر ما تمنح قارئها لحظات ماتعة لرشاقة اللغة المكتوبة بها، بقدر ما توثق، بشكل أو بآخر، لجلسات “الحريم” وأسراره. وهي في الوقت نفسه، تعلن عن ولادة كاتبة متمكنة من أدوات اشتغالها، واعية بخيارتها الجمالية، اسمها تغريد أبو شاور.