لابوبو.. وعقلية القطيع!

دمية بلا ملامح واضحة، لا ذكاء في تصميمها، ولا جمال في صناعتها، ولا حتى قصة خلفها تُروى. ومع ذلك، اجتاحت الأسواق كالإعصار، واقتحمت أرفف المحال، وتسللت إلى غرف الأطفال، بل حتى إلى قلوب الكبار. اسمها؟ لابوبو. وما لابوبو هذه إلا مجازٌ صارخ لعقلية القطيع في أبهى تجلياتها.
في البدء، لم تكن “لابوبو” شيئًا يُذكر. دمية عادية، برأس كبير وجسد صغير، لا تمتاز بشيء سوى أنها ظهرت في الوقت المناسب، وسط جيل يبحث عن ضجة تُخرجه من صمته، أو نكتة يتداولها ليشعر بوجوده. شيئًا فشيئًا، بدأت تنتشر. لم يكن انتشارها نتيجة إعلان ذكي، ولا حملة تسويق عبقرية، بل بفعل التقليد الأعمى وحده. شخص ما التقط لها صورة، كتب تعليقًا ساخرًا، ثم شاركها… ففعل الآخرون مثله. وهكذا بدأت الدمية تتحول إلى ظاهرة.
لكن أيّ ظاهرة هذه؟ وما الذي يجعل الناس يحتشدون حول منتج لا يملك أي قيمة جمالية أو فكرية أو حتى ترفيهية تُذكر؟ هنا تبدأ الحكاية الحقيقية… حكاية عقلية القطيع.
عقلية القطيع ليست مفهومًا نفسيًا مجردًا فحسب، بل هي سلوك يومي نراه يتكرر في المشهد الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، وحتى الاستهلاكي. إنها لحظة يتخلى فيها الإنسان عن فردانيته، عن حسّه النقدي، عن بصيرته، ليذوب في اختيارات الجماعة، خوفًا من أن يُقال عنه: “غريب”، أو أن يُتهم بأنه لا يواكب “الترند”. ولأننا نعيش في زمن تهيمن فيه خوارزميات الشهرة على قراراتنا، يصبح اللاشيء، فجأة، كلّ شيء!
اللافت أن “لابوبو” لم تدخل قلوب الناس من باب الحاجة، بل من باب الضحك والاندهاش. شيءٌ يُشترى فقط لأن الجميع اشتراه، ويُهدى فقط لأن الجميع أهداه. وكأن لسان حال الناس يقول: “لا نعرف لماذا نحبها، لكن لا نريد أن نكون وحدنا خارج الدائرة”. وفي هذا الاختيار التافه، تكمن مأساة كبرى: لقد صار الذوق الجمعي هشًّا، يُقاد كالغنم، يلهث خلف أي “صرعة” جديدة دون مساءلة، دون تأمل، دون تفكير.
قد يرى البعض أن الموضوع بسيط، وأن الأمر لا يعدو كونه موضة تافهة ستمرّ كما مرّ غيرها. لكن المسألة أخطر من ذلك بكثير. “لابوبو” ليست مجرد دمية. إنها تجلٍّ صارخ لعصر يتعطل فيه العقل أمام “الترند”، وتُستبدل فيه الأسئلة الجادة بتفاهات الشاشة، ويصبح السائد مقدّسًا لمجرد أنه سائد.
اللافت أيضًا أن هذا النوع من الظواهر ينجح دومًا في المجتمعات التي تعاني من فراغ روحي أو ثقافي. فحين يغيب المشروع الثقافي الحقيقي، تملأ الفراغ دمية. وحين تغيب القدوة، يصبح أي شيء محط أنظار. في غياب المعنى، تصبح “لابوبو” هي المعنى!
أليست هذه مفارقة؟ أن نخاف من أن نُتّهم بالاختلاف، فنتماهى مع “دمية” خاوية، وأن نشتريها لا لأننا نحبها، بل لأننا لا نريد أن نبدو وحدنا؟ أليس هذا قمة القطيعية؟
لكن لا شيء يُخيف “القطيع” أكثر من الفرد الحر. ذلك الذي لا يشتري لأن الآخرين اشتروا، ولا يضحك لأن الجميع يضحك، ولا يصفّق لأن الصفّ كله يصفّق. الفرد الحر ليس بالضرورة غريبًا، لكنه يتمسك بحريته في الرؤية والاختيار. يراقب من بعيد، يبتسم أحيانًا، يعارض غالبًا، ويصمت حين يكون الصمت موقفًا.
وهكذا صارت “الدمية” رمزًا، والمعنى زينةً سطحية، فأصبح التفكير فعلًا ثوريًا. أن تقول “لا” حين تصرخ الجموع بـ ”نعم” هو الشجاعة بعينها. أن تتأمل قبل أن تنفعل، أن تسأل قبل أن تُساير، أن تتريّث قبل أن “تشارك”… كلّ ذلك مقاومة راقية لعقلية القطيع.
لسنا ضد الضحك، ولا نُحرّم التسلية، ولا نجرّم الظواهر الطريفة. لكننا نخاف أن يتحوّل المرح إلى فخ، والموضة إلى سجن، والدمية إلى مرجعية. نخاف من لحظة يصبح فيها الإنسان مجرد مستهلك لما يُقدَّم، دون أن يسأل نفسه: لماذا؟ ولأجل مَن؟ وماذا بعد؟
لابوبو ليست العدو، لكنها الجرس.
والجرس لا يُخيف إلا النائم.
فهل نُفيق؟ أم نُكمل الحكاية… كدمى؟

** المصدر: جريدة”الشرق”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى