لا تقنطوا…

د.زينب المحمود
Latest posts by د.زينب المحمود (see all)

معلوم أنّ العبد هو الذي يتوب من ذنبه ومما اقترفته نفسه ويداه وجوارحه، لكن هل هذه التوبة تؤتى لأيّ إنسان؟ أم أنّها منحة إلهية يختصّ بها من يستحق من عباده؟ حقيقة إنّ توبة الله على عبيده هي حصيلة جهد واستحقاق لهذه الفئة ممن يريد الله بهم خيرًا. وتوبة الله على عبده تقسم إلى قسمين؛ سابقة ولاحقة، فأما السابقة؛ فهي توفيق الله للعبد، وإلهامه التوبة، والإقلاع عما هو فيه من خرق الحدود، والضلال البعيد. وأمّا التوبة الأخرى؛ فهي قبول الله توبة عبده، بإسقاط ذنبه، من دون إحباط سالف عمله. وهذه لطيفة أثيرة؛ إذ إنّ المبادرة إلى التوبة والدافعية لا تكون من العبد ذاته، الغارق في شهواته، الممعن في ضلالاته، بل تكون بوخزة للضمير، ونكزة للشعور، تأتيه من الله، فيستشعر من الذنب وحشة، ويشعر في روحه رعشة، فيعود أدراجه، ويتمرغ في عتبات الضراعة، ويركب سكّة الطاعة، فإذا صدق الله التوبة، تاب عليه ربه، فتقبّل منه الحسنات وتجاوز عن السيئات، ومحا ما شاء، وأثبت ما شاء، وعنده أم الكتاب. وقد ركّب الله النفوس على النفور من الذنوب والأوزار، والاطمئنان بالبر والخير والأذكار، فعندما يقارف العبد ذنبًا أوّل أمره، يستشعر التنغيص في سره، ويشعر أنه يخالف سير الفطرة ويعاكسها ويشاكسها، فإذا استمر هذا مرارًا وتكرارًا، شعر بالتآلف والتحالف مع الذنب، وهذه مرحلة خَطِرة عسيرة، إذ إنَّ النفس القابلة للتقوى والفجور، خلعت ربقة المراقبة، وأدمنت الشرور والذنوب المتعاقبة. وإنعاش الأرواح كإنعاش الأجسام، يصعب كلما ازدادت الأسقام، وقد ركّب الله النفس اللوامة فينا لتلقي علينا بالملامة بعد كل شرود وخروج عن المعهود، وإذا طالت ملابسة الإثم، تبرد اللوامة وتكسد. ولكن، رغم ذلك، فإن الله لا يعمل وفق المنهج الخطي، الذي يبدأ بسبب، وينتهي بناتج، بل يكرم من شاء بالكرامات والخوارق، فكم من أثيم فاسق، أضاءت في فطرته البوارق، فقام من تحت رماد نفسه العاتية القاسية، واقشعرَّ جلده من خشية الله، فالفطرة سراج لا تنطفئ جذوته مهما جثم فوقها الذنب وتراكم، ومهما تقادم وتعاظم، فلا يزال لها وميض قابل للاشتعال، وبصيص في آخر نفق الضلال. من أجل ذلك كلّه، سمّى الله نفسه «التواب» بصيغة المبالغة، كمًّا وكيفًا، فالله يتوب على عباده مرارًا وتكرارًا، وهو الذي يتوب على عبادٍ كانوا في مرحلة اليأس والقنوط بعد أن أوغلوا في التردي والسقوط، حتى يئس مَنْ حولهم مِنْ صلاح أحوالهم، وأيقنوا سوء مآلهم، ولكن يشاء الله أن يضرب بهم مثالًا على التوبة التي لا يحدها حد، ولا يصدّها سَدّ، وهو القائل سبحانه: }قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهِ يَغْفِرُ الذُنُوْبَ جَمِيْعًا{ (الزمر: 53). فعلينا جميعًا، أن نبادر بالتوبة ونجددها ما دام في أعمارنا متسع، وألا نقنط من رحمة الله وتوبته مهما ابتعدنا عنه جلَّ جلاله، فما سمّى نفسه بالتوّاب والرحيم إلا ليتوب علينا ويرحمنا.

** المصدر: جريدة “العرب” 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى