ليس هنالك فنٌ إسرائيليٌ ..ونحن أكثر بكثير / سلطان القيسي ( شاعر وكاتب من فلسطين )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
لا يمكن للمرء أن يتخيل شعباً دون غناء، فالغناء حاجةٌ إنسانية أولاً، ثم إنه شرطٌ حضاري، إن استطاع الوقوف على ساقيه، فذلك يعني وجود حضارة تسنده، أما إن ظل يتهاوى فهو ليس أصيلاً ولا يستند إلى حضارة..
والفن الفلسطيني كغيره من الفنون الأصيلة يستند إلى حضارة تمتد إلى مطلع القرن الثالث قبل الميلاد، وحسب آخرين تمتد إلى القرن السابع قبل الميلاد.. غير أن الكنعانيين على خلاف الشعوب السامية الأخرى، وضعوا الموسيقا على رأس هرمهم الحضاري، فكما يرد في بحث أجرته البعثة الفلسطينية في المملكة المتحدة فإن الكنعانيين امتلكوا طقوساً دينية مبنية على أساس موسيقي راسخٍ، اقتبسوه من شعوب المناطق المقابلة للساحل، وقولبوه في قالب ديني جديد، وبدأوا يبثونه عبر صولاتهم وجولاتهم، حتى أصبح دون أن يشعر أحد تراثاً موسيقياً متوسطياً.
ومن بين كل أنواع الغناء والموسيقا العربية، يبدو الحديث عن الموسيقا الفلسطينية صعباً و شائكاً، ذلك أنها كثيراً ما تشتبك مع الديانات التي مرت على أرضها وشعبها، كالوثنية، واليهودية، والمسيحية، والإسلامية حتى إن اعتبرنا الإنشاد وأغاني الحروب جزءاً من التراث الموسيقي للمنطقة، والسبب الأكثر سطوعاً هو وقوع فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي من جهة، ومن جهة أخرى أننا صرنا نعتبر “كنعان” -كما كانت تسمى قديماً – ما قسمته معاهدة سايكس بيكو للفلسطينيين فقط، إن أرض كنعان التاريخية، تمتد من غرب سوريا إلى سيناء مروراً بالساحل اللبناني و الفلسطيني، حيث ينسلُّ اللبنانيون الفينيقيون من أصول كنعانية، وكما يذكر فيلون الجبيلي فإن منطقة فينيقيا تشكل السواحل الشمالية لفلسطين الحالية أي لبنان، والتي كان يكثر فيها الأرجوان الذي كان يبيعه هؤلاء للإغريق ليصنعوا به آلهتهم “فينكس- العنقاء” لذا أصبح اسمهم فينيق، وهذا يعتبر مسوّغاً تاريخياً للتشابه العظيم في الغناء الفلسطيني و اللبناني، فهناك من ذهب لاتهام الرحبانيين بسرقة تراث فلسطين من مثل: ” دار الدوري عالداير يا ست الدار”، و”عالروزنا عالروزنا كل الحلا فيها” ، و”على دلعونة” و” أبو الزلف” و “العتابا” وغيرها كثير، والحقيقة على ما يبدو أن هذه الأغنيات التي تحمل كلمات بلا معنى أحياناً، يمكن بسهولة أن نقول عنها إنها تسرّبت عبر التاريخ القديم الذي جمع الفننيقيين والكنعانيين على طاولة غداءٍ واحدة، أو في معبد واحد ليغنوا هذه الأغنيات.
حتى الآن ظل الغناء الفلسطيني راسخاً و ملتبساً في آن، فالاحتلال الإسرائيلي، أجبر فنانيين فلسطينيين كثر على مغادرة بلادهم، ما يعني أنهم حملوا جنسيات عربية جديدة، صار يصعب من بعدها أن يعرّف الفنان بنفسه على أنه فلسطيني، فضاع المنجز من الكيس الفلسطيني لصالح الخزان الفني العربي الأرحب. لا بأس، ولكن حين تَنعتُ إعلاميةٌ عربيةٌ الفنان الفلسطيني بالإسرائيلي، فقط لأن ظروف الاحتلال أجبرته على حمل “جواز السفر الإسرائيلي”، فهذا أمر يهدد الثقافة العربية بأسرها، فالموسيقا والشعر مثلاً لا يمكن فصلهما عن بعضهما، والشعر حاضنة الحضارة والتاريخ والثقافة، وإن كانت الموسيقا والغناء مهددين فالشعر مهدد أيضاً؛ توفيق زيّاد، سميح القاسم، إميل حبيبي، محمود درويش، وغيرهم الكثير الكثير من مبدعي فلسطين حملوا ما يسمى بالجنسية الإسرائيلية، لكنهم ظلوا فلسطينيين.
ومن بين هؤلاء الفلسطينيين الذين يحملون هذه الجنسية المارقة، النجمة الفلسطينية “ريم تلحمي” التي كانت ومازالت تمثل الفن الفلسطيني بمعناه الأجمل والأقوى، حيث صارت تشكّل مؤخراً قيمة فنيّة خاصةً، وحالة منفردة، من خلال مشاركاتها المتعددة والفريدة في آن.
ريم المولودة في شفا عمرو شمالي فلسطين، ترى أن الفن الفلسطيني في تطور دائم، حتى وإن جعلته الظروف بطيئاً، لكنه مثمر ومستمر، وترى أن المسرح بشكل عام مساحة متاحة للعمل بين خطي الزمان والمكان، وأن المسرح الفلسطيني ذا إنتاجية عالية، وإن كان الإقبال الجماهيري يتجه إلى السينما، إلا أن المسرح يبقى الساحة الأساس.
تأتي فرادة ريم تلحمي من تمكنها من فنون عدة، الرقص التمثيلي والغناء و المسرح والموسيقا، ففي إحدى مسرحياتها “أخوات شكسبير” تجسد دوراً ميتافيزيقياً تتحلى صاحبته بالغناء والرقصة والحركة المستمرة على وتيرة عالية من الرشاقة والليونة، حيث تعبر ريم عن علاقة الحركة بالموسيقا على أنها متصلة جذرياً فالموسيقا في أصلها حركةٌ، وتبتعد عميقاً لتقول إن حركتها وصوتها يتغيران وفقاً للدور الذي تجسّده، للمسرح الذي تعتليه، وللجمهور الذي يستمع، ولقد شاركت ريم تلحمي في عدة أعمال لمخرجين من مختلف أنحاء العالم كغيرها من الفنانات والفنانين الفلسطينيين، وهذا يقودنا إلى سؤال مشروع: لماذا يقبل فنانو العالم على التعاون مع الفلسطينيين دون غيرهم من العرب؟
من رأيي أن القضية الفلسطينية بأبعادها المتعاكسة، تأييداً ورفضاً، تعاطفاً وحقداً، مدعاة حتمية للإبداع، ففي جو كهذا يغرق في الأحداث اليومية التي تشكل حبلاً تاريخياً طويلا، يمكن أن تُنشر عليه هواجس كثيرة، يجد مبدعون كثر مكاناً خصباً لإنتاج أعمالهم مهما اختلفت أصنافها.
عن هوية الأغنية الفلسطينية، تقول ريم تلحمي التي شاركت في غناء ألبوم “يعلو” للفنان الفلسطيني حبيب شحادة حنا، والتي أطلقت ألبومها قبل فترة وجيزة بعنوان “يحملني الليل” من كلمات الشاعر خالد جمعة وألحان الفنان سعيد مراد، تقول: “إن هوية الأغنية الفلسطينية محيرة ولكنها موجودة، وحاضرة بقوة، في الأغنية السياسية، والشعبية التراثية، والإنسانية الكونية”.
هذا التنوع في الغناء الفلسطيني يقودنا أيضاً إلى التنوع في الشعر الفلسطيني، وفي الثقافة الفلسطينية بأسرها، فالفلسطيني المولود في كندا مثلاً، والمتعلم هناك، لا يمكن أن تتشابه ثقافته مع ابن مخيمات الأردن وسوريا ولبنان، وأبناء المخيمات هذه لن يتشابهوا كذلك، ولن يشبه فلسطينيو الخارج فلسطينيي الضفة الغربية الذين لا يشبهون فلسطينيي غزة أو فلسطينيي ما داخل الخط الأخضر. إلا أن هذه الفسيفساء ولأنها مرتبطة بهمٍّ واحد ستشكل ثقافة متعددة الألوان ووحيدة المعدن.
وهذا طبعاً ما يعري الجانب المقابل، فليس ثمة ما يسمى “فناً إسرائيلياً”، لأن يهود أوروبا يغنون على إيقاعات تختلف مع يهود اليمن، وكذلك يختلف همّ اليهودي الروسي الذي يسعى للسلطة في “إسرائيل” عن هم يهود “الفلاشا” الآتين من أفريقيا ليعملوا في مهن متدنية المستوى.. الفارق العظيم يتجلى في أن الكنعانيين مرتبطون بالمكان، وبالأرض والبحر والسماء، مهما اغتربوا وابتعدوا، فهم أبناء طينة واحدة وثقافة واحدة، ساهمت المنافي بتلوينها، على عكس “ثقافة” الاحتلال التي جاءت ملونةً أصلاً بألوان لا تشبه المكان، ولا تستطيع الانسجام مع بعضها.. في المحصلة ليس هنالك “فنٌّ إسرائيلي” ولا فنانون “إسرائيليون”.
ريم تلحمي واحدة ممن بقوا في فلسطين رغم الاحتلال، ليحافظوا على الهوية العربية للمدن، وليقفوا في وجه تهويدها، لايمكن أن يحدث أمر كهذا إلا إن حمل هؤلاء الفلسطينيون جنسية الاحتلال، فتقول ريم رداً على من يتهم فلسطينيي الداخل بـ”الأسرلة”، وعلى من يسمي فناني فلسطين بالإسرائيليين، تقول:
“هويتي الوطنية ليست محط نقاش أو مزاودة من أي أحد، ويكفي أنني أعرفها جيداً، فخرٌ كبير لي أن أكون ممن بقوا هنا،كما أهلي من قبلي،وفخر كبير لي أيضاً أن أكون من ضمن أولئك الذين استطاعوا خلقَ التوازن هذا في أرواحهم وقلوبهم. أستطيع أن أمشي على الحبل المشدود دون الوقوع،رغم اللحظات المخيفة التي قد تفقدني توازني. هذه أنا: ريم تلحمي،الفنانة الفلسطينية التي تحمل جنسية الاحتلال وجواز سفره .. عليكم أن تتعاملوا معي رزمة واحدة،لأنني ببساطة أكثر من هذا بكثير”.
إن كلاماً كهذا يحتاج إلى قدمين راسختين في طين حنون، ويحتاج إلى مسند ظهر عظيم اسمه التاريخ، أنا أجزم أن مغنياً من قطعان الاحتلال لن يجرؤ على قول جملة كهذه : ” لأنني ببساطة أكثر من هذا بكثير”.