المري

المؤثرون اليوم مشاهير يشغلون الصغير والكبير، ويمدون الجماهير بشتى الأخبار. والأكثر من ذلك كله، فهم مقصد العلامات التجارية، وفاعلون اقتصاديون وسياسيون يملكون القدرة على تشكيل الوعي وتوجيه سلوك متابعيهم. هذا واقع ظاهرة عالمية فرضت نفسها بقوة الانفجار الرقمي، لتزعزع قواعد التأثير والثقة في الفضاء الرقمي، الأمر الذي استوجب وضعها على مرمى السياسات العامة والتوجيه الإيجابي عبر إعادة النظر في الأطر التنظيمية لهذه الصناعة المتنامية.
وتكشف التجارب الدولية عن محاولات رائدة في توظيف المؤثرين إيجابياً، حيث استعانت الحكومة الفنلندية خلال جائحة كورونا بألف وثمانمائة مؤثر للوصول إلى شرائح يستعصي الوصول إليها عبر القنوات التقليدية، بينما نجحت المملكة المتحدة في توظيف مؤثرين من الأقليات لتخفيض التردد تجاه اللقاح من ثلاثين بالمائة إلى مستويات طبيعية عبر استثمار ما تسميه الدراسات «العلاقات الباراصوشيالية»؛ أي تلك الروابط الحميمة التي يبنيها المؤثر مع متابعيه حتى يصير صوتًا موثوقًا يتفوق أحيانًا على المؤسسات الرسمية.
غير أن هذا الصعود العالمي للمؤثرين بصورة تفوق التوقعات، يحمل في طياته تحديات تهدد جوهر المصداقية التي قامت عليها الممارسة الإعلامية. إذ تكشف دراسات حديثة حول صناعة المؤثرين عن مفارقة لافتة تتمثل في صعوبة التحقق من «الحقيقة وراء أصالة المؤثر الظاهرية»، حيث تسود ممارسة مفادها «أن تكون أصيلًا وليس بالضرورة دقيقا»؛ أي تقديم الذات بصورة تبدو حقيقية في جوهرها دون أن تكون كذلك فعليًا. ثم يتفاقم هذا التناقض مع ازدهار «الاقتصاد الظلي» للصناعة، من شراء المتابعين الآليين، وانتشار مزارع النقر، وشبكات التضخيم الذاتي المعروفة بـ«عُقَد إنستغرام» حيث يتواطأ المؤثرون على تضخيم محتوى بعضهم البعض لخداع الخوارزميات. وخلف كواليس هذه الصناعة يكمن التحدي الأكبر في تحول القيم والمواقف إلى سلعة قابلة للمساومة، فقد يروّج المؤثر لمحتوى معين اليوم ولمنافسه في الغد، ما دام قادرًا على إبقاء سرد علامته الشخصية متماسكًا ظاهريًا، متنقلًا من اقتصاد الانتباه العابر إلى ما تصفه الأدبيات بـ «اقتصاد العاطفة» حيث الولاء للشخصية وليس لمصداقية المحتوى.
في ظل هذا المشهد المعقد، بادرت دول عديدة إلى وضع أطر تنظيمية تحفظ التوازن بين تشجيع الإبداع وحماية المجتمع، حيث سنَّت المملكة المتحدة وأستراليا منذ 2017 قوانين تلزم المؤثرين بالإفصاح الواضح عن المحتوى المدفوع، بينما أوصت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الحكومات ببناء شبكات مؤثرين موثوقين للتواصل الحكومي، معتبرة أن «المؤثرين قادرون على ترجمة الرسائل العامة إلى سرديات مقنعة للفئات المستهدفة». وألزم المشرع، في المملكة العربية السعودية، المعلنين على وسائل التواصل الاجتماعي بالحصول على رخصة سنوية تخضعهم لمعايير واضحة في المحتوى والإفصاح، مع آليات رقابية فاعلة تحد من المواد «الهابطة». أما في دولة قطر، فقد جاء اقتراح مجلس الشورى في ديسمبر الماضي ليضع إطارًا متكاملًا لتقنين صناعة المحتوى الرقمي؛ حيث نص الاقتراح على إصدار رخصة «مؤثر» من جهة معنية بالدولة، تتضمن معايير مهنية وأخلاقية واضحة تقضي باحترام الوحدة الوطنية والموروث الثقافي، وتجنب خطابات الكراهية والتمييز، وعدم نشر معلومات مضللة، والشفافية في الترويج. كما شمل الاقتراح ضوابط إدارية تحدد مدة الرخصة وآليات تجديدها، مع رقابة تضمن الامتثال وعقوبات تدريجية عند المخالفة، ساعيًا لتحويل المؤثرين إلى شركاء في التنمية يقدمون «محتوى يتوافق مع قيمنا ويحد من البذخ والإسراف ويمنع انتشار الثقافات الدخيلة».
وتبقى حاجتنا إلى هذا الإطار القانوني خطوة تشريعية بناءة تؤكد أن تنظيم هذا المجال ليس مصادرة لحرية التعبير بل صيانة للفضاء العام من العبث، بما يعزز «مناعة معرفية» للمجتمع عبر قانون يحوّل المؤثر المرخّص إلى إعلامي محترف يخضع لمعايير المهنة ويتحمل مسؤولية ما ينشر. وعندها نؤسس فضاءً رقميًا يحمي النشء، ويعزز الثقة والمصداقية وفق قانون يضمن مراعاة التأثير الإيجابي ومسؤولية المحتوى.

** المصدر: جريدة”الشرق”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى