“مئة حاسة سرية” لا وجود للإنسان خارج ذاكرته

خاص (الجسرة)
*بريهان الترك
أصدر الروائي الأردني الشاب عاصف الخالدي ترجمته إلى اللغة العربية لرواية “مئة حاسة سرية” للروائية الأمريكية من أصل صيني آمي تان، تسلط الرواية الضوء على علاقة الإنسان المهاجر الذي قادته ظروفه إلى الهجرة، وعلى علاقته بزمان ومكان ماضيين، مع زمان ومكان هما واقعه الحاضر واليومي.
وتظهر الرواية العالم يختفي من أمامنا ليظل موجودا في الذاكرة، بشخوصه، امواتا أو أحياء، بجغرافيته، وبما تركت أحداثه فينا من أثر، الأهم، هو أن هذا العمل، يطبق مقولة ماركيز بشكل عميق، وهي أنه لا وجود للإنسان خارج الذاكرة، ولذا، فإن هذا العمل الروائي يقول بأن الموت، ليس نهاية المطاف، مستندا على تناسخ الحيوات، ومستندا على أن الإنسان لا وجود له بغير ذاكرته.
يظهر كل ما سبق جلياً في الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية وهما: كوان، وأختها أوليفيا. وكوان هي الفتاة التي تم جلبها من الصين قبل أن تبلغ الثامنة عشرة من عمرها لتعيش مع عائلة والدها المهاجر في أمريكا والذي طلب قبل موته أن يتم إحضار ابنته إلى أمريكا كطلب أخير.
تعقد كوان مقارنة يومية مع حياة في ذاكرتها وأحلامها، مقابل حياتها الجديدة في أمريكا، وتستخدم آمي تان سخرية عميقة مبنية على ثقافة شاسعة في تقديم تلك السخرية، تنتقد المجتمع الأمريكي وكذلك الصيني، والمميز هو أنها لا تتوقف عند حدود وعيها وحياتها التي تحياها، بل تتجاوز ذلك من خلال أحلامها عن حيوات سابقة عاشتها في القرن التاسع عشر، بوجه آخر، بشخصية أخرى، وتخلق عالماً موازياً، باستدعائها لتلك الأحلام والأحداث، من خلال الأشباح، وكأن المتخيل السردي في رواية آمي تان، يحتاج إلى أن يغمض القارئ عينيه ويترك العنان للخيال، وللأشباح التي تقول قصصها، وتنتقد العالم القديم، لنرى على ماذا بني عالمنا الجديد، شخوص عاشت في القرن التاسع عشر إبان الحرب الأهلية في الصين واحتلال بريطانيا وأمريكا لها، تجارة الأفيون والسلاح، تشجيع الاقتتال وفرض المصالح لخدمة الاستعمار، المبشرون الذين يصرخون في وجوه الصينيين: إلهنا أفضل من إلهكم، وكانوا يجذبون الفقراء إلى الكنيسة مقابل طبق أرز في نهاية قداس الأحد.
أشباح آمي تان ليست سوى حيوات اختزنتها شخوصها في ذاكرتها، واستدعتها من خلال الأحلام، لتتمكن من ربط الماضي والحاضر، وربط المكان في الصين والمكان في أمريكا، من خلال أداة الذاكرة، لم تجعل كوان أختها أوليفيا تؤمن بأشباحها فقط، رغم عدم وجود دليل مادي على هؤلاء الاشباح الذين لم يكونوا سوى شخوص حيوات نسيها التاريخ بعد أن هدمتها الحرب، بل جعلتها تؤمن بقصصهم ورواياتهم ونهاياتهم المأساوية، ماتوا، ولكن ظلوا أحياء في ذاكرة أحبتهم، ماتوا وعادوا كأشباح تسكن الاحلام، والأهم والذي يمثل هذا العمل، هو ما تقوله الرواية عن أن العالم، ليس مكاناً، العالم هو اتساع الروح، وأن الموت ليس نهاية المطاف، إن كانت الروح محاطة بالحب، فإن الحب هو محور الخلود لأنها ستولد من جديد، في حياة أخرى، باحثة عن حبها. وفي النهاية تقول كما أخبرتها أشباحها في الرواية: بأن الكلام لا يمكن فهمه وفق معناه المعروف، إنما، وفق ما يشعر به من يقوله، قد ينبثق الأمل من اليأس، والفرح، يتم تقطيره من الحزن.
في الصين، تنظر آمي تان لما دمرته الصورة الثقافية التي أعلن عنها ماو، ثم تعود إلى جذور وثقافة الصينيين لتسخر بعمق مظهرة المفارقات بين واقع الناس والسلطة، في أمريكا، تظهر أن الواقع ليس سوى سوقا يتبع رواده الموضة، وتقصد هنا الشعب نفسه. وفي الوسط، يكمن عالم لبشر تم نسيانهم، حتى صاروا أشباحاً، ذلك أن حاضر هذا العصر السريع يبدو كوحش، مقابل البطء الذي تطالبنا الروائية فيه، أن نغمض أعيننا ونمشي في الظلام، لكشف ما هو منسي، لطالما تذكر العالم الوحش، ونسي الإنسان