«مانشستر على البحر» أنشودة متقشفة للموت والندم والربيع الذي يضيء النهاية

ابراهيم العريس

… كأن الموت لا يخيّم فقط على فيلمه الأخير «مانشستر على البحر»، بل على سينماه ككل، حتى منذ كان مجرد كاتب سيناريو في فيلم «عصابات نيويورك» من إخراج مارتن سكورسيزي. فنحن حيثما ننظر الى سينما كينيت لونرغن، سنجد موضوعة الموت أساسية. بل، في شكل أكثر تحديداً، موت شخص عزيز، ثم العودة الى مكان ذلك الموت بعد سنوات، وصعوبة تلك العودة مع استحالة تفاديها، وعادة ما تكون العودة الى مكان الموت القديم، لمناسبة موت آخر – أو السعي إليه كما في «عصابات نيويورك» -. غير أن الموت الذي يكون مجرد حالة فقدان مربكة ومحزنة في الأفلام الأخرى، نجده في «مانشستر على البحر» يتخذ أبعاداً بالغة الاختلاف. ولنبدأ هنا بالموت الثاني الذي شكّل مناسبة العودة الى الموت الأول، الذي سنكتشف في مجرى سياق الفيلم، أنه أكثر «ارتباطاً» بلي تشاندلر، الشخصية المحورية في الفيلم، فلي الذي يعمل الآن حارساً في مجمع سني في بوسطن، يُستدعى ذات يوم الى بلدته مانشستر على البحر لأن أخاه الوحيد جو قد أصيب بجلطة قلبية ووضعه خطير. يتلقى لي النبأ بهدوء ورزانة لا يخرجان عن سياق انفعالاته المتقشفة والصامتة. لكنه حين يصل الى البلدة سيكون الأوان قد فات. لقد رحل أخوه تاركاً له في وصيته مهمة سيحاول أول الأمر رفضها: وصية تطلب منه أن يكون هو الوصيّ على المراهق باتريك ابن جو ذي الست عشرة سنة، إذ من غير المستحب أن تتولى الوصاية على الفتى أمه المدمنة على الخمر والمطلقة منذ زمن.
يحاول لي التملص من هذه المهمة البالغة الصعوبة بالنسبة إليه. ولكن من دون جدوى. فالوصية وصية ولا يمكن التنكر لها. غير أن الأدهى من هذا أن الفصل شتاء جليديّ، وبالتالي لن يمكن دفن جو فوراً، بل يجب وضعه في ثلاجة ريثما يحل الربيع ويذوب الجليد، فيمكن دفنه في جنازة لائقة، وكنتيجة لهذا يستوجب على لي أن يبقى هنا في رفقة باتريك على أن يصطحبه معه بعد ذلك للإقامة في بوسطن. لكن الفتى يرفض ذلك الرحيل. فهنا، في البلدة الصغيرة، موطن طفولته وصداقاته، وذكريات أبيه. كل شيء هنا فما الذي يجبره على الانتقال الى بوسطن، لا سيما بعيداً من مركب الصيد الذي أورثه إياه أبوه؟
حتى هنا تبدو الحكاية بسيطة، ولا تشكل ذلك البعد الدرامي الذي يمكنه أن يمحور فيلماً قوياً من حوله، مهما كانت قوة المخرج وكاتب السيناريو، ومهما كان الأداء التمثيلي رائعاً، والموسيقى المستخدمة في الفيلم استثنائية (تتراوح بين باخ وهاندل وبوب ديلن وراي تشارلز، ولكن بخاصة آلبينوني كما سنرى بعد سطور). ما سيعقد الحكاية، بل حتى يدنو بها من حدود الميلودرامية، سيكون فحواه الموت الأول، السابق، والذي سنعرف أن لي بارح البلدة ذات يوم بسببه: الموت المثلث لبناته الثلاث في حريق اعتبر لي نفسه مسؤولاً عنه. وكان من نتيجته أن انفصل عن زوجته وعن البلدة. بل عن حياته كلها، ليعيش اليوم هذه الحياة المتقشفة والصامتة التي تشبه كل شيء ولكن ليس الحياة.

الذنب الغائب
تكمن معضلة لي الأساسية في أن «الذنب» الذي اقترفه في الماضي وأدى الى موت أطفاله، ظل من دون عقاب. فهو حين كانت الشرطة تحقق في الحريق، برّأته منه تماماً، مع أنه كان هو من ترك المدفأة مشتعلة في شكل غير سليم في البيت إثر خناقته مع زوجته وتوجهه الى سوق البلدة ليشتري بعض الزجاجات. كان من الواضح أنه يريد من الشرطة أن تتهمه وتسجنه معتبرة إياه مجرماً. لكن هذه لم تفعل. بل إن رجال الشرطة طوقوه وأنقذوه من نفسه حين انتزع مسدس واحد منهم وحاول الانتحار. إثر ذلك أخلد الى الصمت العميق، والتحق في بوسطن في عمل روتيني يمكّنه من أن يعيش صامتاً ووحيداً، كمن يعاقب نفسه وحياته على ما فعل.
غير أننا لن نعرف هذا كله إلا لاحقاً. ومن خلال ذلك الذهاب والإياب، في الفيلم، بين الماضي والحاضر، في تصوير أخّاذ لكل تلك الحيوية التي كان يعيشها لي تشاندلر مع زوجة يحبها وأطفال يعبدهم، وفي صحبة أخيه أيام صيد السمك في المركب يصحبهما الطفل الذي كانه باتريك في ذلك الحين. اليوم هذا كله لم يعد موجوداً، بل إن لي غير تواق حتى لاستعادة تلك الذكريات الغابرة، والتي قد يكون في استعادتها نوع من العزاء له. فهو في الأحوال كافة لا يبحث عن أي عزاء. أما مهمة الوصاية التي يعهد بها إليه شقيقه الراحل جو، فمرفوضة… ولكن أين الهرب؟
فلي، حتى حين دبّر الأمور بحيث تستعيد أم باتريك ابنها، ما يؤدي الى توجه هذا لقضاء يوم لدى أمه وخطيبها المغرق في مسيحيّته، لن تسير الأمور على خير ما يرام، بل إن باتريك سيعود الى عمه، الذي كما أشرنا، يبقى في البلدة في انتظار دفن جو، ما يجعل الفيلم كله، من الناحية الزمنية، يجرى على ايقاع تقلبات الفصول، وتحت مظلة الموت.
ومن هنا فإن الايام التي تمر، في انتظار ذلك، ستكون أياماً يترافق فيها لي وابن أخيه، في تناحر، يواكبه إصرار من لي على محاولة الإفلات من هذا كله. ولكن تصحبه ايضاً لحظات الذكريات والعودة الى الماضي. وهذه العودة ستصل الى أوجها لاحقاً في الفيلم حين ينتقل بنا السيناريو الى «ما حدث». ففي ذلك اليوم البعيد، نلتقط لي تشاندلر وهو عائد بخطى وئيدة من الحانوت الذي توجه إليه لشراء الزجاجات. فجأة، وعلى إيقاع موسيقى تؤمّنه واحدة من أكثر القطع الموسيقية الكلاسيكية نعومة ورومانسية («آداجيو» آلبينوني)، يسمع لي أصواتاً، تقلقه فيحث الخطى في رحلة يؤمن لها «الآداجيو» عمقها الزمني اللانهائي، حتى يصل الى بيته ويجده محترقاً والأطفال يُخرجون منه جثثاً.
واضح هنا أننا أمام واحد من أقسى المشاهد السينمائية. وهو، سينمائياً على أية حال، واحد من أقسى مشاهد الفيلم لا يضاهيه في قسوته سوى مشهدين آخرين: الأول حين يكتشف باتريك جثمان ابيه مسجى في الثلاجة. والثاني حين يلتقي لي تشاندلر بزوجته السابقة في الطريق وقد تزوجت غيره الآن وتصطحب معها طفلها الجديد من زواجها الثاني. وفي الحقيقة أن أداء الفنانين كيسي آفليك (لي) وميشيل يليامز (الزوجة) في هذا المشهد، يستحق وحده جائزة «الغولدن غلوب» التي فاز بها آفليك عن دوره في الفيلم، وربما بعد أيام جائزة أفضل أوسكار له، وأفضل أوسكار ممثلة مساعدة لها. فهنا في هذا المشهد ثمة من قوة الحوار، وقوة المشاعر (هو يريدها أن تلومه على ما حدث، كجزء من عقابه الذاتي، وهي تحاول ألا تجرحه بأي شكل من الأشكال) ما يضفي على الفيلم كله بعداً إنسانياً مدهشاً في قسوته ونعومته في الوقت نفسه.
مهما يكن، لا بد من أن نذكر هنا أن «مانشستر على البحر» مرشح الآن لستّ جوائز أوسكار، من بينها، إضافة الى ما ذكرنا، جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو كتب أصلاً للسينما، وحتى أفضل ممثل مساعد للوكاس هدجز، عن دوره كابن أخ للي.

نقطة تفاؤل
طبعاً لو فاز «مانشستر على البحر» بكل هذه الأوسكارات، او ببعضها، سيكون «فلتة الشوط»، كما سيكون أول فيلم يتوّج في الأوسكار، من تلك التي تصوّر الآن بالديجتال، وتعتبر جزءاً أساسياً من نوع من سينما شعبية مستقلة، من تلك التي تقترن عادة بمهرجان صاندانس، علماً أن العرض الأول للفيلم كان العام الفائت في هذا المهرجان بالتحديد.
مهما يكن، ليس كينيت لونرغن، كما لمّحنا أعلاه، اسماً جديداً في عالم السينما الأميركية، حتى وإن كان لا يزال لأفلامه، حتى اليوم، طابع حميم من النوع الذي يستهوي نخبة محبي السينما. بل إن ثمة من وصف أفلامه (وعددها ثلاثة حتى الآن) بأنها سينما كئيبة لا تريد أن تبارح فكرة الموت. ومع هذا، وربما لهذا، أنهى المخرج/ الكاتب فيلمه الجديد هذا، على نقطة تفاؤل، جعلت مكانة الموت ثانوية في نهاية الأمر. الموت الذي إذا كان قد خيم كل هذا التخييم على سياق «مانشستر على البحر»، فإنه كان دائماً أليفاً في فيلمي لونرغن السابقين، كمخرج، وعمله الأبكر ككاتب سيناريو («عصابات نيويورك»). ففي فيلمه «يمكن الاتكال عليّ» يفقد سامانتا وتيري وهما طفلان والديهما في حادث سيارة ليفترق كل منهما في طريق ويعودان ليلتقيا بالغين، حيث سرعان ما يقيم تيري علاقة ودّ مع ابن سامانتا تقلق هذه الأخيرة وتربك مجرى حياتها ومحاولاتها سلوك درب النسيان. أما في الفيلم التالي «مرغريت» فلدينا الموت مرة أخرى، ولكن هنا من خلال ذكريات صبية من بيئة موسرة يحدث لها ذات يوم، إثر حادث حافلة قاتل، أن تجد بين يديها امرأة تلقى حتفها بفعل الحادث، فتعتبر الفتاة أنها كانت هي المسؤولة عن موت تلك الضحية، وبات عليها أن تعيش الى الأبد مع تلك الذكرى.
صحيح أن الفتى الذي سيتحول الى المنتقم ليوناردو دي كابريو، في «عصابات نيويورك»، ليس هو المسؤول عن مقتل ابيه الكاهن الإرلندي في بداية الفيلم على يد بيل الجزار وعصابته، لكن مقتل الأب سيظل هاجسه وسبب عودته لاحقاً الى المكان النيويوركي نفسه كي ينتقم من القاتل.
أما السؤال اليوم فهو: بعد الخاتمة الربيعية المضيئة في نهاية «مانشستر على البحر»، هل يمكن القول إن كينيت لونرغن قد شفى غليله من الموت وصفّى حسابه معه؟
ســـؤال من المؤكد أن الفيلم المقبل لهذا السينمائي الصموت والمتقشف (كما أفلامه) سيحــمل الإجــابة عــنه، بخاصة انه اليوم، بعد النجاح الكبير (جماهيرياً ونقدياً… وربما أوسكارياً أيضاً بعد أيام) الذي حققه ويحققه «مانشستر على البحر»، لم يعد في حاجة الى الانتظار طويلاً قبل تحقيقه فيلماً مقبلاً

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى